مجله البيان (صفحة 1007)

مبادىء العالم الحر (اقتباس)

قديم جديد

مبادئ العالم الحر! [*]

للأستاذ سيد قطب (رحمه الله)

(العالم الحر) اسم يطلقه الاستعماريون في انجلترا وفي فرنسا وفي أمريكا

على تلك الكتل الاستعمارية التي تكافح ضد الزمن، وتقاتل ضد الإنسانية، وتقاوم

ضد الحرية. ثم تطلق على نفسها في النهاية اسم (العالم الحر) !

و (العالم الحر) مشغول هذه الأيام بتمزيق إهاب (الحرية) في تونس

ومراكش وفي كينيا وفيتنام.. وفي كتم أنفاس (الأحرار) في كل مكان؟ لأن رسالة

العالم الحر هي أن يكون حراً في قتل الحرية حسبما يشاء.

و (العالم الحر) يرتكب من الجرائم ما يقشعر له ضمير البشرية. وذلك

رغبة في نقل مبادئ الحضارة الغربية إلى القارة المظلمة. وإذا كانت هذه القارة لا

تريد أن تتحضر على يد البعثات التبشيرية فلتتحضر إذن بالسيف والمدفع والطيارة

والدبابة؛ وهي أقدر ولا شك على نقل مبادئ الحضارة إلى الشعوب المتخلفة!

و (العالم الحر) يشرد الشعوب من ديارها - على نحو ما فعل في فلسطين - وذلك رغبة منه في إيجاد (لاجئين) يتولى رعايتهم، والعطف عليهم، وإقامة الخيام لهم في العراء. فمبادئ العالم الحر تقتضي العطف على المشردين، الذين لا وطن لهم في هذه الأرض المعذبة!

و (العالم الحر) يتساند ويتكاتف في هذه المهام الضخام. أليس الدولار هو

الذي يشد من أزر فرنسا في تونس ومراكش وفيتنام، ويشد من أزر إنجلترا في

كينيا ومصر وفي كل مكان، ويشتري الصحف والأقلام والجماعات والجمعيات

والرجال والنساء في هذه الأيام؟ !

وأنا لا أعيب على (العالم الحر) أن يمزق إهاب الحرية ويمثل بجثث

الضحايا من الأحرار، ويقتل الأطفال والنساء والشيوخ في القرى الآمنة، ويرتكب

الجرائم الوحشية التي يرتكبها بلا تحرج.. فإن هدفه السامي من وراء ذلك كله

واضح كما قلت وهو نقل مبادئ الحضارة الغربية بطريقة عملية إلى الشعوب

المتأخرة والتي لا يجوز أن تظل متأخرة!

إني لا أعيب على هذا (العالم الحر) حريته هذه. حرية وحوش الغابة في أن

تصنع في الغابة ما يؤهلها له الظفر والناب فمبادئ الحضارة الغربية هي هذه كما

كانت وكما هي كائنة، وكما ستكون حتى يأذن لله لها بالفناء.

كلا! إنما أتلفت إلى شعوبنا وحكوماتنا ومفكرينا وكتابنا وشعرائنا وجماعاتنا

وجمعياتنا … أتلفت إليهم لأرى هل سكتت الأبواق التي تهتف بحمد الحضارة

الغربية؟ هل خرست الألسنة التي تتحدث عن الصداقة الأمريكية والصداقة

الإنجليزية والصداقة الفرنسية؟ هل انزوت الجماعات والجمعيات التي تحمل ألوية

الصداقة مع (العالم الحر) وتشيد بجهوده في الخدمات الاجتماعية والتعليم الأساسي

واليونسكو والنقطة الرابعة [1] وسائر الوسائل الاستعمارية الحديثة التي تنخر في

صخرة المقاومة الشعبية؟

أتلفت لأرى هذه الأبواق لا تزال مفتوحة، ولأرى هذه الألسنة ما تزال طليقة، ولأرى هذه الجمعيات والجماعات ما تزال تتبجح وتعلن عن نفسها بلا حساب،

وتنفق الأموال الضخمة في هذا الإعلان، والدولار من خلفها يمكن لها من العمل

ويمكن لها من الإعلان!

إن (العالم الحر) لا يحاربنا بالمدفع والدبابة إلا في فترات محدودة، ولكنه

يحاربنا بالألسنة والأقلام، ويحاربنا بالمنشآت البريئة في مركز التعليم الأساسي،

وفي هيئة اليونسكو، وفي النقطة الرابعة، ويحاربنا بتلك الجمعيات والجماعات

التي ينشئها وينفخ فيها ويسندها ويمكن لها في المراكز الحساسة في بلادنا ...

وأخيراً فإنه يحاربنا بأموال أقلام المخابرات التي تشتري الصحف والأقلام،

وتشتري الهيئات والجماعات.

(....) لقد قام بيننا في وقت من الأوقات رجل يسمى (أمين عثمان) يحمل

لواء الصداقة الإنجليزية في فجور وتبجح، ويؤسس جمعية نادي العلمين. كما

قامت في ظله (جماعة إخوان الحرية) [2] . ولقد هرعت الشخصيات الكبيرة

يومها إلى أمين عثمان وجمعيته. الشخصيات المستوزرة التي تشم رائحة الحكم من

عشرات الأميال.. ولكن حاسة الشعب السليمة ظلت تنفر من الرجل وجماعته على

الرغم من انضمام (الشخصيات الكبيرة) لأن الشعب يعرف قيمة هذه الشخصيات

ودوافعها!

(....) إن الحرب المقدسة مع الاستعمار اليومتقتضي تخليص ضمائر

الشعوب أولاً من الاستعمار الروحي والفكري، وتحطيم الأجهزة التي تقوم بعملية

التخدير، والحذر من كل لسان ومن كل قلم، ومن كل جمعية أو جماعة تهادن

معسكراً من معسكرات الاستعمار، التي ترتبط جميعها بمصلحة واحدة، ومبادئ

واحدة. مبادئ العالم الحر ومصالح العالم الحر!

(....) والمهم أن نتجمع اليوم ونتساند كما يتساند العالم الحر ضدنا. فكل

بلد صغير لا يستطيع وحده أن يكافح عالماً. والسياسة القصيرة النظر التي تريد أن

تحصرنا في حدودنا الجغرافية المصطنعة هي سياسة حمقاء فالعالم يسير نحو التكتل

في الشرق والغرب سواء. ومن واجبنا أن نتكتل على الأقل تمشياً مع منطق

العصر؛ إن لم يكن تمشياً مع منطق الإسلام.

والمجموعة الآسيوية الافريقية تحاول أن تكون كتلة محايدة. ولا ضير من

السير معها، وإن كنت أنا شخصياً لا أرى أن هنالك مقومات حقيقية ودائمة لقيامها. فهناك تيارات مختلفة تتجاذبها. والمصالح التي تربط بينها اليوم مصالح مؤقتة.

أما الكتلة التي يمكن أن تقوم على أسس حقيقية وعميقة ودائمة فهي الكتلة الإسلامية، وهي آتية لا ريب فيها على الرغم من جهود (العالم الحر) وجهود (الديموقراطيات الشعبية) فلنعجل بقيامها، فهي سندنا الحقيقي الوحيد.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015