بهذا من له أدنى نظر في التعرف على الحقوق وعوامل إقرارها وإحقاقها والحكم بثبوتها.
وفي مثل هذا يقول ابن القيم - رحمه الله - في كتابه الطرق الحكمية ما نصه: وبالجملة فالبينة اسم لكل ما يبين الحق ويظهره، ومن خصها بالشاهدين أو الأربعة أو الشاهد لم يعط مسماها حقه. ولم تأت البينة قط مرادا بها الشاهدان، وإنما أتت مرادا بها الحجة والدليل والبرهان مفردة ومجموعة، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم «البينة على المدعي (?)» المراد به أن عليه ما يصحح دعواه ليحكم له والشاهدان من البينة، ولا ريب أن غيرها من أنواع البينة قد يكون أقوى منها كدلالة الحال على صدق المدعي فإنها أقوى من دلالة إخبار الشاهد، والبينة والدلالة والحجة والبرهان والآية والتبصرة والعلامة والأمارة متقاربة في المعنى، وقد روى ابن ماجه وغيره عن جابر بن عبد الله قال: «أردت السفر إلى خيبر فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت إني أريد الخروج إلى خيبر، فقال: إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقا فإذا طلب منك آية فضع يدك على ترقوته (?)».
فهذا اعتماد في الدفع على مجرد العلامة وإقامة لها مقام الشاهد، فالشارع لم يلغ القرائن والأمارات ودلائل الأحوال، بل من استقرأ الشرع في مصادره وموارده وجده شاهدا له بالاعتبار مرتبا عليها الأحكام - ثم قال بعد أن استنكر رأي من يقف من القرائن والأمارات موقفا سلبيا ويعتمد على أدلة الإثبات من شهادة أو إقرار -: وهذا موضع مزلة أقدام ومخبلة أفهام، وهو مقام ضنك ومعترك صعب فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود وضيعوا الحقوق وجرؤا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له وعطلوها مع علمهم وعلم غيرهم قطعا أنها حق مطابق للواقع ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع، ولعمر الله إنها لم تناف ما جاء به الرسول، وإن نفت ما فهموه هم من شريعة باجتهادهم. والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة الشريعة وتقصير في معرفة الواقع، وتنزيل أحدهما على الآخر، فلما رأى ولاة الأمر ذلك وأن الناس لا يستقيم لهم أمر إلا بأمر وراء ما فهمه هؤلاء من الشريعة أحدثوا من أوضاع سياستهم شرا طويلا وفسادا عريضا فتفاقم الأمر وتعذر استدراكه وعز على