الجواب الثاني أنه ثبت في بعض روايات حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - المذكور ما هو أعم من يوم النحر وهو صادق قطعا بحسب الوضع اللغوي ببعض أيام التشريق، ومعلوم أن الرمي فيه لا يكون إلا بعد الزوال فقول السائل في بعض أيام التشريق ": رميت بعدما أمسيت" لا ينصرف إلا إلى الليل لأن الرمي فيها بعد الزوال معلوم فلا يسأل عنه صحابي.
قال أبو عبد الرحمن النسائي في سننه أخبرنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال: حدثنا يزيد هو ابن زريق قال حدثنا خالد عن عكرمة عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أيام منى فيقول " لا حرج" فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح. قال " لا حرج" فقال رجل: رميت بعدما أمسيت. قال " لا حرج (?)» وهذا الحديث صحيح الإسناد كما ترى لأن طبقته الأولى محمد بن عبد الله بن بزيع وهو ثقة معروف وهو من رجال مسلم في صحيحه وبقية إسناده هي بعينها إسناد البخاري الذي ذكرناه آنفا وقوله في هذا الحديث صحيح أيام منى بصيغة الجمع صادق بأكثر من يوم واحد فهو صادق بحسب وضع اللغة ببعض أيام التشريق والسؤال عن الرمي بعد المساء فيها لا ينصرف إلا إلى الليل فإن قيل: صيغة الجمع في رواية النسائي تخصص بيوم النحر الوارد في رواية البخاري فيحمل ذلك الجمع على المفرد نظرا لتخصصه به ويؤيد ذلك أن في رواية أبي داود وابن ماجه لحديث ابن عباس المذكور يوم منى بالإفراد.
فالجواب أن المقرر في الأصول أن ذكر بعض أفراد العام لا يخصصه على مذهب الجمهور خلافا لأبي ثور (?) سواء كان العام وبعض أفراده المذكور بحكمه في نص واحد أو نصين. . .
وللمخالفين القائلين لا يجوز الرمي ليلا أن يردوا هذا الاستدلال فيقولوا: رواية النسائي العامة في أيام منى فيها «أنه كان يسأل فيها فيقول " لا حرج (?)» وأنه «سأله رجل فقال: رميت بعدما أمسيت. فقال: لا حرج (?)» ولم يعين اليوم الذي قال فيه: رميت بعدما أمسيت وعموم أيام منى صادق بيوم النحر وقد بينت رواية البخاري أن ذلك السؤال وقع في خصوص يوم النحر أيام منى ولا ينافي ذلك أنه قال " لا حرج" في أشياء أخر في بقية أيام منى وغاية ذلك أن أيام منى عام، ورواية البخاري عينت اليوم الذي قال فيه: رميت بعدما أمسيت.
الجواب الثالث هو ما قدمناه في الموطأ عن ابن عمر من أنه أمر زوجته صفية بنت أبي عبيد وابنة أخيها برمي الجمرة بعد الغروب، ورأى أنهما لا شيء عليهما في ذلك، وذلك يدل على أنه علم من النبي صلى الله عليه وسلم أن الرمي جائز ليلا. انتهى.
وقد يقال: إن صفية وابنة أخيها كان لهما عذران لأن ابنة أخيها عذرها النفاس ليلة المزدلفة وهي عذرها معاونة ابنة أخيها (?). انتهى المقصود.