يخفى على الدارس البصير.

إنني لا أستطيع أن أقول إن الأخفش كان مقلدا بحتا، كما هو الشأن في المقلدين التقليديين، الذين لم يعرف عنهم تجديد قط من أي لون كان، أو أنه كان مجددا بحتا كما هو حال ابن مضاء على سبيل المثال، ولكني أقول وأنا مطمئن إنه كان أكثر المقلدين تجديدا، وأوسع التقليديين ابتكارا، إن صح هذان التعبيران. فقد بدت منه لمعات لم تكن لتبدو من غيره، وكانت له مواقف لم نجدها عند سواه في السابقين، وربما في اللاحقين، وهو وإن التزم في درسه النحوي بما وضع من الأصول الكلية واستقر من القضايا الشاملة كقضية العامل وقضية القياس وقضايا الحدود والعلل، ونهج في هذه الأصول والقضايا نهج أسلافه ومعاصريه ولم يحاول التصدي بالنقد أو التغيير أو التعديل لما وضع منها أو بالإنشاء والابتكاء لما يمكن أن يخترع منها أو يضاف إليها - فإنه قد انصرف بكليته بدلا من ذلك إلى الاهتمام الواسع بالفروع وإلى التعامل الكبير معها، فحوى نحوه لذلك فروعا كثيرة اجتهد فيها وأضاف إليها ما أسعفه به عقله الذكي وثقافته الواسعة) وهي فروع مبثوثة بكثرة في التراث النحوي.

وقد حوى نحوه في الوقت نفسه فروعا أخرى لم يخرج فيها عما استقرت عليه المدرسة البصرية من القواعد القائمة على أسسها الخاصة، واكتفى في هذه الفروع بأن جعلها ميدانا فسيحا عرض فيه مهارته المنطقية وأبرز عارضته الجدلية كسائر النحاة البصريين.

كما حوى نحوه فرعا غيرهما سار فيها مسار نحاة الكوفة وفق اتجاهات مدرستها التي تميل إلى التسمح وتتجاوب مع الفطرة اللغوية بمقدار أكبر من غيرها، بعيدا عن التمحل والتفلسف ونحوهما.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015