للتراث النحوي في البلدين بأن يتسع ويخصب كما اتسع وخصب فيهما فيما بعد، ولو أنه عاش بعد زمانه بعيد حين زاد التنافس وكثرت المدارس وتزايد العلماء واتسع البحث في هذا العلم وكثر وعمق وغرز، لكان أكثر تميزا واستقلالا واجتهادا، ولكان نحوه أكثر خصوبة وأكبر حجما؛ لأنه يشتغل حينئذ بذكائه المعهود وإمكانياته القوية في خضم إرث نحوي ضخم ومتشعب وكبير آل إليه، وهذا وذاك يجعلان الميدان أمامه واسعا والمسائل ثرة والآراء متشعبة ومجال الحديث أوسع وأرحب والنتائج أعمق وأخصب.

على كل حال لقد برز الأخفش بين أقرانه تبريزا قويا في هذا الوقت المبكر، وأجاد وأبدع وأفاد، وكان يصول ويجول في كل أحواله مقلدا ومجددا، فهو في التزامه بمنهج مدرسته وبطريقة أقرانه الأعلام يعد مقلدا بارعا أرسى معهم دعائم الدرس النحوي في مدرسته، وهو في ابتكاره ونظراته المتميزة مجدد في إطار زمانه، وهو تجديد يختلف في حد ذاته عن التجديد الذي كان من ابن مضاء وأضرابه، ممن سجلهم التاريخ فيمن ثاروا على إرث نحوي ضخم امتلأ تعقيدا وفذلكات عبر مسيرة الزمان الطويلة؛ لأنه كان تجديدا ما زال النحو إبانه غضا طريا وما زالت مسائله - وإن كثرت - أكثر صفاء من صفاء اللغويين إلى الإيغال الشديد في نقيضهما مما حمل ابن مضاء وغيره من دعاة الإصلاح على حمل لواء الانتقاء الشديد ثم التجديد الكامل.

فأمر المقارنة بين تجديد الأخفش وتجديد ابن مضاء مثلا مرهون بزمانيهما، وبمسيرة الدرس النحوي في كل من هذين الزمانين، وبين مسائل النحو فيهما وبين طبيعة هذه المسائل في كل منهما فرق كبير لا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015