يخرج منه، ولكنه ذهب إلى بغداد لينتقم من الكسائي الكوفي لهزيمة أستاذه سيبويه إمام البصريين أمامه في المناظرة الشهيرة في المسألة الزنبورية، فكان ذهابه نقطة التحول الرئيسة في حياته العلمية، إذ لم يلبث أن انقلب هدفه بعد وصوله إلى عاصمة الخلافة ولقائه مع الكسائي، ونسي أو تناسى ما جاء من أجله وأصبحت الدنيا همه، وتوارى الغرض العلمي من زيارة بغداد ليحل محله الغرض الدنيوي، لما رآه فيها مما لم يألف رؤيته في البصرة من دعة العيش ورفاهة، ومن النفوذ الذي شاهد النحاة الكوفيين ينعمون به والمجد الذي عاينهم يتقلبون في أعطافه إلى جوار الخلفاء العباسيين، الذين أحبوهم وقربوهم؛ لأنهم كانوا شيعة لهم، في حين كان البصريون شيعة للأمويين فتطلع إلى أن يصبح مثلهم وينعم بنحو ما ينعمون به فيقضي سائر أيام حياته في خير ونعمة لن يتاحا له لو بقي في مدينته البصرة.
وهكذا تحول الأخفش من نحوي بصري الهوى والالتزام إلى صديق للكسائي رأس الكوفيين وللفراء إمامها ولغيرهما من أقطابهم، واستحال تحرشه بهم محبة لهم وتعلقا بهم وتقربا منهم، ثم إن الكوفيين أنفسهم لم يكرهوا ذلك، بل قربوه وصادقوه وبجلوه، وقرأ عليه الكسائي كتاب سيبويه سرا، وأطعمه بالمال وقربه منه ووكل إليه أمر تدريس أولاده، بل أتاح له أن يقوم فيما بعد بتأديب أولاد الخلفاء العباسيين وغيرهم من الأمراء والوجهاء.
كل هذا جعل هوى الكوفيين يتسرب إلى نفسه، والميل إليهم يملأ قلبه فشرع يقف معهم في آرائهم أو يقفون معه في آرائه، وكثر خروجه على قومه واختلافه معهم ومخالفته لأحكامهم، ومال إلى اللين والتساهل في