كان للشاعر منها مندوحة أو لم يكن.

ولقد أدى هذا المسلك وذلك إلى سقوط الاحتجاج عند البصريين بمجموع غير يسير من شعر القبائل المعتد بها والمعتمد عليها في الشاهد، فقد ترك البصريون الاحتجاج بكلامها؛ لأنها لم تسكن حيث يريدون، هذا بالإضافة إلى الضرورة الشعرية التي منعتهم أيضا من الاستشهاد بكثير.

أما الكوفيون فقد قبلوا كل لغة وشاهد، حتى الشعر المصنوع والمنسوب لغير قائله قبلوه، واكتفوا كذلك بالشاهد الواحد، وباللغة الشاذة واللفظ الذي لم يطرد في الاستعمال ما دام فصيحا ليس فيه لحن صريح، وبنوا على كل ذلك أحكامهم واستنبطوا منها قواعدهم وأقاموا عليها أقيستهم، بل لقد رخصوا بالقياس النظري على مقتضى الرأي أحيانا إذا أعوزهم الشاهد، كذلك اعتدوا بلغات الأعراب وأشعارهم ممن فسدت فيهم السليقة بسبب الاختلاط بالحضر، فعل ذلك مثلا شيخ الكوفيين الكسائي الذي اعتمد على كلام أعراب الحطمية الذين يسكنون قرب بغداد في الاحتجاج لرأيه في مناظرته الشهيرة في المسألة الزنبورية مع شيخ البصريين سيبويه الذي أنف من الاحتجاج بكلامهم، وفعل مثل هذا وأكثر منه غير الكسائي من سائر مشاهير الكوفيين وأعلامهم.

وقد أدى كل ما سبق بالكوفيين إلى أن يقل عندهم التأويل والحكم بالشذوذ والضرورات خلافا للبصريين الذين كثر عندهم ذلك.

وإنه ليمكننا في ضوء ما قررناه أن نقول: إننا نستطيع أن نشبه البصريين بالمحافظين المتمسكين بالقديم الثابت، والكوفيين بالمجددين الذين يتلمسون التوسع ويجرون وراء الابتكار.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015