ولا غرابة - بعد ذلك - في أن يكون إنشاء ذلك الحقل التربوي هو العمل الأول الذي أسس عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دولته وبدأ فيه جولته وانطلاقته فور هجرته المباركة.
ومن خلال هذه الأهمية الهامة للمسجد نراه وقد أحيط بسياج عجيب من الرعاية التي تضفي عليه من الجلال والهيبة ما يجبر على إعظامه وتوقيره والتعاطف معه بأجمل المشاعر.
فهو يحس ويؤمن أن مجرد الاتجاه إلى هذا البيت الكريم يقتضيه أن يتطهر وأن يسكن ويتوقر، وأن مجرد السعي نحوه يحط من سيئاته ويكثر من حسناته ويرفع من درجاته، وأن مجرد الوقوف على أبوابه يتطلب منه المناجاة والدعوات، بل وتنظيم الخطوات في تقديم يمينه، فما أن يسعد بالدخول حتى يشرع في تحية مولاه بالخشوع والصلاة، ثم هو في صلاة ولو كان ينتظر الصلاة، وحسبه أن أصبح في وجود له حصانته وحرمته، فلا يجرؤ أحد أن يمر يبن يديه، ولا أن يرفع صوته بالتشويش عليه، بل تنقطع جميع المحادثات ولو كانت عادية إلا ما كان منها علما أو ذكرا أو خيرا من أمور تعبدية. ويكفي المؤمن شعورا أنه في مجال: عمارته دليل الإيمان وبرهان الفلاح والهدى، سواء في ذلك العمارة الإنشائية أو العمارة الاستعمالية بالتردد والعبادة والإفادة وفصل القول: إنه بهذا التعلق القلبي الزكي يصل إلى درجة وهي غاية الغايات، حين يسمع بشرى نبيه -صلى الله عليه وسلم- «ورجل قلبه معلق بالمساجد (?)» ضمن الأنواع السبعة النادرة التي يظلها الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
ومن خلال هذا الطهر والصفاء يتعرف الإنسان على نفسه، وفي هذا الإطار الروحي الكريم يتعرف على إخوانه المسلمين، بل وفي هذه الضيافة المباركة يتعرف على ربه. . وفي ظلال تلك السماوات يدرك المؤمن ما عليه من واجبات وماله من حقوق فينسجم في جميع أحواله مع نفسه ومجتمعه ودينه في وحدة متناسقة يتحقق فيها بوصف المؤمنين الذين {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (?).
وإذا توفر هذا الوعي الراشد في أفراد المجتمع وأدركوا بالتطبيق العملي أن " المسجد " محراب صلاة ولقاء بالله وعز ومناجاة وموضع ذكر وفكر ومكان علم وتعليم ودار اعتكاف وتربية وميدان جندية وقيادة وضبط ودقة وإحكام، وأنه دار إفتاء ومجلس شورى وصالة قضاء ينصف فيها المظلوم ويستوي لديها الحاكم والمحكوم، وأنه دار لقاء وتعارف وحب وإيثار وتعاطف. يربط الأواصر ويصلح الباطن والظاهر.
فماذا تبتغي المجتمعات من سعادة حين تدرك الحسنى وزيادة.