ومن هذا التاريخ تصدرت مكانة الحرم المكي وأخذت الكعبة المشرفة أهميتها البارزة في عقيدة المسلمين وسائر عباداتهم، ثم عاش النبي - صلوات الله وسلامه عليه - الفترة الباقية من النبوة في المدينة المنورة يرسي قواعد الدولة الإسلامية متخذا من مسجده الشريف مقرا لإدارة الدولة، ومدرسة فكرية لتربية أصحابه، يزاولون فيه شعائر عباداتهم، ويتلقون من نبيهم تعاليم دينهم إلى أن استبان المنهج، واكتملت الرسالة، ولم يعد سوى أن يتابع رجاله السير على هداه، وبعدها لحق رسولنا الكريم بالرفيق الأعلى، تاركا لنا ميراث نبوته في كتاب الله وسنته المشرفة.
ومن هذا المنطلق احتل مسجد الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - في طيبة الطيبة في حياته وبعد مماته مكانته المقدسة في قلوب المسلمين جميعا، وبجواره رقد النبي - صلى الله عليه وسلم - رقدته الأخيرة إلى أن يلقى ربه، وصار المسجد النبوي ثاني الحرمين الذي تشد إليه الرحال من كل فج؛ ليشارك الحرم الأول رسالته السامية في تعميق مشاعر الإيمان في قلوب المؤمنين.
وإيمانا بأهمية رسالة كل من الحرمين الشريفين حرص خلفاء المسلمين ومن جاء بعدهم من الحكام على إبقاء هذه الرسالة حية ومتجددة على الدوام، تؤتي أكلها وثمارها في كل حين، وذلك برعايتهما وصيانتهما من كل حركة معادية أو اتجاه هدام؛ لأن إلحاق الضرر - لا قدر الله، مهما كان نوعه أو درجته يمس الحرمين من قريب أو بعيد - إنما هو ضرر يمس قبل كل شيء عقيدة المسلمين، ويوهن من مشاعرهم وشعائرهم، وتؤدي إلى تمزيق وحدتهم التي من الله عليهم بها في قوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} (?).
وإن كانت خدمات حكام المسلمين من: أمويين وعباسيين وفاطميين وعثمانيين وسعوديين إزاء هذين الحرمين عبر فترات التاريخ الإسلامي قد تنوعت، فشملت السقاية والرفادة وكسوة الكعبة،