والطلمسات والسيمياء وغير ذلك مما يستدعيه مقام الإنشاء الذي هو مقام الفصاحة والبلاغة والوعظ والزجر والأمر والنهي والحل والعقد والعزل والتنصيب والعقوبة والعفو والحرب والسلم والخداع والإرهاب والتهديد والاستعطاف والفخر بل هو مقام الملوكية لترجمة المنشئ مطوية سلطانه بلسان قلمه وبهذه المواد والاشتغال بها ارتقى الإنشاء إلى أعلى ذروة التقدم ونبغ في الشرق الوفد من الكتاب المضلعين من العلوم وكان مقام الإنشاء أرقى مقام في دار الخلافة فلا ينتخب للوزارة إلا كاتب عالم بأساليب الكتابة وفنون الإنشاء وضروب التعبير فسمي الوزير أولاً كاتباً ثم صاحباً ثم وزيراً.
وبقدر اجتهاد أهل المشرق في هذه الفنون كان اجتهاد الأفريقيين في المغرب بل أنهم اجتهدوا في الإنشاء والشعر حتى كأنهم هم الواضعون لهما إذ كانوا يتصرفون في الإنشاء تصرفاً غريباً ويكتبون فيه الرسائل البديعة والأوامر المريعة والنواهي الخالعة للقلوب والاستعطافات المؤلفة بين المتخاصمين والرقائق التي تستميل الطباع الصلبة وتحرك الجبلة الساكنة وتستميل النفوس العاتية فكانت المسابقة بين الغرب والشرق في ميدان ركضت فيه فرسان البلاغة على جياد الفصاحة فأدركوا المضمار وهم على ظهور العز والسيادة ولا يخفى أن الخلفاء والملوك كانوا مستقلين بآرائهم في الأمم فكان يلزمهم اتخاذ الوزراء المحيطين بهذه العلوم ليستمدوا من أفكارهم ما به قوام الأمة ونظام الملك وهذا الذي دعا المتقدمين إلى الجد في طلب العلوم وسهر الليالي الطوال في حفظ القواعد والتضلع من الآداب والتواريخ وتقويم البلدان