فأمر المأمون أن يرفع إلى أعلى من تلك الرتبة. فلما دارت المسألة الثالثة أجاب بجوابٍ أحسن وأصوب من الجوابين الأولين. فأمر المأمون أن يجلس قريباً منه. فلما انقضت المناظرة أحضر والماء وغسلوا أيديهم وأحضروا الطعام فأكلوا. ثم نهض الفقهاء فخرجوا ومنع المأمون ذلك الشخص من الخروج معهم وأدناه منه ولاطفه ووعده بالإحسان إليه والإنعام عليه. ثم تهيأ مجلس الشراب وحضر الندماء الملاح ودارت الراح. فلما وصل الدور إلى ذلك الرجل وشب قائماً على قدميه وقال: إن أذن لي أمير المؤمنين تكلمت كلمة واحدةً. قال له: قل ما تشاء. فقال: قد علم الرأي العالي زاده الله علوا أن العبد كان اليوم في هذا المجلس الشريف من مجاهيل الناس ووضعاء الجلاس. وأن أمير المؤمنين قربه وأدناه بيسير من العقل الذي أبداه وجعله مرفوعاً على درجة غيره. وبلغ به الغاية التي لم تسم إليها همته. والآن يريد أن يفرق بينه وبين ذلك القدر اليسير من العقل الذي أعزه بعد الذلة وكثره بعد القلة. وحاشا وكلا أن يحسده أمير المؤمنين على هذا القدر الذي معه من العقل والنباهة والفضل. لأن العبد إذا شرب الشراب تباعد عنه العقل وقرب منه الجهل وسلب أدبه. وعاد إلى تلك الدرجة الحقيرة كما كان وصار في أعين الناس حقيراً مجهولاً. فأرجو من الرأي العالي أنه لا يسلب منه هذه الجوهرة بفضله وكرمه وسيادته وحسن شيمته.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015