ثم قام بوعده بعد مدة وجعل أبا الفداء سلطانا على حماة. واحضره إلى القاهرة فأكرمه وأركبه بشعار السلطنة ومشى الأمراء والأكابر في خدمته حتى مشى الأمير أرغون النائب بالديار المصرية. وقام له الملك الناصر بكل ما يحتاج إليه من التشريف والإنعامات على وجوه الدولة والخيول بقماش الذهب وغير ذلك ولقبه بالملك الصالح وأمره بالتوجه إلى محل سلطنته بحماة. فخرج إليها من ديار مصر بتحمل زائد وعظمة على عادة الملوك. فوصلها في جمادى الآخرى سنة عشر وسبعمائة. وعاد معه إلى القاهرة وأذن له أن يخطب باسمه بحماة وأعماله إلى القاهرة ومعه أنواع من الهدايا والتحف للملك الناصر محمد بن قلاوون ويعود إلى محل سلطنته. ثم في كل قليل يتحف الملك الناصر بالأشياء الظريفة الغريبة. قال بعضهم في وصفه: هو الملك الجليل. وأما ظله ظليل. عالم تخفق بالنصر أعلامه. وحاكم تجري لمصالح الرعية أقلامه. بيته مشيد. وملكه مؤيد وصدره للطالبين مشروح. وبابه لأرباب الفضائل مفتوح. كان جوادا سخيا. باسلا كميا. ممدوحا محمودا. منتابا مقصودا. ذا تدبير وسياسة وحشمة ورئاسة. وفضل ومكارم. وحلم ومراحم وعدل وإنصاف. ومعروف وأوقاف. يحب أهل العلم والأدب. ويفيض عليهم سحائب القرب والقرب. زاحم بهمته النجوم. وشارك في عدة من العلوم. وألف تاريخا كثير الفوائد. ونظم الحاوي نظما يسخر بالعقود والقلائد. وله مصنفات معروفة. وقريض به قراضة ذهبه موصوفة. باشر النيابة ثم السلطنة بحماة مدة طويلة. وأسدى إلى سكان حماها ما استوجب به شكر مناقبه الجميلة وكان له نظم ونثر وتصانيف كثيرة. وكتاب تقويم البلدان هذبه وجدوله. وكتاب الموازين. وكانت وفاته بحماة ودفن في ترتبه المعروفة بإنشائه عن ستين سنة. ورثاه محمد بن نباتة المصري بعد مراثٍ أشهرها قوله:

ما للندى لا يلبي صوت داعيه ... أظن أن ابن شاذ قام ناعيه

ما للرجاء قد استدت مذاهبه ... وللزمان قد اسودت نواحيه

ما لي أرى الملك قد قضت مواقفه ... ما لي أرى الوفد قد فاضت مآقيه

نعى المؤيد ناعيه فيما أسفا ... للغيث كيف غدت عنا غواديه

وا روعتا لصباح من زريته ... أظن أن صباح الحشر ثانية

وا حسرتاه لنظمي في مدائحه ... كيف استحال لنظمي في مراثيه

أبكيه بالدر من جفني ومن كلمي ... والبحر أحسن ما بالدر أبكيه

أروي بدمعي ثرى ملك له شيم ... قد كان يذكرها الصادي فترويه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015