أئمة عصره ورزق الحظوة التامة في عمل المقامات. واشتملت على شيء كثير من كلام العرب من لغاتها وأمثالها ورموز أسرار كلامها ومن عرفها حق معرفتها استدل بها على فضل هذا الرجل وكثرة اطلاعه وغزارة مادته. وكان سبب وضعه لها ما حكاه ولده أبو القاسم عبد الله قال: كان ابي جالساً في مسجد بني حرام فدخل شيخ ذو طمرين عليه أهبة السفر. رث الحال فصيح الكلام حسن العبارة. فسألته الجماعة من أين الشيخ. فقال: من سروج. فاستخبروه عن كنيته فقال: أبو زيد. فعمل أبي المقامة المعروفة بالحرامية وهي الثامنة والأربعون وعزاها إلى أبي زيد المذكور واشتهرت. فبلغ خبرها الوزير شرف الدين أبا نصر أنوشروان بن خالد بن محمد القاشاني وزير الإمام المسترشد بالله فلما وقف عليها أعجبته وأشار على والدي أن يضم إليها غيرها. فأتمها خمسين مقامة. وغلى الوزير المذكور أشار الحريري في خطبة المقامات بقوله: فأشار من إشارته حكم. وطاعته غنم. إلى أن أنشئ مقامات أتلو فهيا تلو البديع. وإن لم يدرك الظالع شأو الضليع. وقد اعتنى بشرحها خلق كثير فمنهم من طول ومنهم من اختصر. ورأيت في بعض المجاميع أن الحريري لما عمل المقامات كان قد عملها أربعين مقامة وجملها من البصرة غلى بغداد وادعاها فلم يصدقه في ذلك جماعة من أدباء بغداد. وقالوا: إنها ليست من تصنيفه بل هي لرجل مغربي من أهل البلاغة مات بالبصرة ووقعت أوراقه إليه فادعاها. فاستدعاه الوزير إلى الديوان واقترح عليه إنشاء رسالة في واقعد عينها. فأخذ الدواة والورقة ومكث زمانا كثيراً فلم يفتح الله عليه بشيء من ذلك. فقام وهو خجلان فقال فيه أبو القاسم علي بن أفلح:
شيخ لنا من ربيعه الفرس ... ينتف عثنونه من الهوس
أنطقه الله بالمشان كما ... رماه وسط الديوان بالخرس
وكان الحريري يزعم أنه من ربيعة الفرس. وكان مولعا بنتف لحيته عند الفكرة وكان يسكن في مشان البصرة. فلما رجع إلى بلده عمل عشر مقامات أخر وسيرهن واعتذر من عيه وحصره في الديوان لما لحقه من المهابة. وللحريري تآليف حسان منها درة الغواص في أوهام الخواص. ومنها ملحة الأعراب المنظومة في النحو وله أيضاً شرحها. وله ديوان رسائل وشعر كثير غير شعره الذي في المقامات. وله قصائد استعمل فيها التجنيس كثيرا. ويحكى أنه كان دميماً قبيح المنظر. فجاءه شخص غريب يزوره ويأخذ عنه شيئاً فلما رآه استزرى شكله ففهم الحريري ذلك منه. فلما التمس منه أن يملي عليه قال له اكتب:
ما أنت أول سار غره قمر ... ورائد أعجبته خضرة الدمن
فاختر لنفسك غيري أنني رجل=مثل المعيدي فاسمع بي ولا ترني فخجل الرجل منه وانصرف. وتوفي الحريري بالبصرة (لابن خلكان)