أخبرنا محمد قال: وثنا أبو العباس؛ ثنا عمر بن شبة قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: حدثني أبو صالح الفزاري قال: ذكر ذو الرمة في مجلس فيه عدة من الأعراب، فقال عصمة بن مالك - شيخ منهم من بني جاشىء بن فزارة، وكان قد بلغ عشرين ومائة سنة -: إياى فاسألوا عنه، كان من أظرف الناس، كان آدم خفيف العارضين، حسن المضحك، حلو المنطق، وكان إذا أنشد بربر وجش صوته، فإذا راجعك لم تسأم حديثه وكلامه، وكان له إخوة يقولون الشعر، منهم مسعود، وجرفاس - وهو أوفى - وهشام. فكانوا يقولون القصيدة فيرد فيها الأبيات فيغلب عليها ويجعلها له، فجمعني وإياهم مربع، فأتاني يوماً فقال لي: يا عصمة إن مية منقرية، وبنو منقر أخبث حي وأقوفه لأثر، وأثبته في نظر، وأعلمه بشر، فهل عندك من ناقة نزدار عليها مية؟ قلت: إي والله، الجوذر، بنت يمانية الجدلى. قال: علي بها. فركبناها جميعاً وخرجنا حتى نشرف على بيوت الحي فإذا هم خلوف، وإذا بيت مي خلو، فعرف النساء ذا الرمة حين طلعنا عليهن، فتقوض النساء إلى بيت مي، وجئنا حتى أنخنا ثم دنونا فسلمنا وقعدنا نتحدث، وإذا مي جارية أملود واردة الشعر، صفراء فيها عسن، وإذا عليها سب أصفر، وطاق أخضر. فتحدثن ملياً ثم قلن له: أنشدنا يا ذا الرمة. قال: أنشدهن يا عصمة. فأنشدتهن قوله:
نظرت إلى أظعان مي كأنها ... ذرى النخل أو أثل تميل ذوائبه
فأوشلت العينان والصدر كاتم ... بمغرورق نمت عليه سواكبه
بكا وامق جاء الفراق ولم تجل ... جوائلها أسراره ومعاتبه
فقالت ظريفة ممن حضر: لكن الآن فلتجل. فنظرت إليها مي؛ ثم مضيت في القصيدة حتى انتهيت إلى قوله:
إذا سرحت من حب مي سوارح ... عن القلب آبته جميعاً عوازبه
فقالت الظريفة منهن: قتلته قتلك الله. فقالت مي: ما أصحه وهنيئاً له. فتنفس ذو الرمة تنفسة كاد حرها يطير شعر وجهه، ومضيت حتى انتهيت إلى قوله:
وقد حلفت بالله مية ما الذي ... أقول لها إلا الذي أنا كاذبه
إذن فرماني الله من حيث لا أرى ... ولا زال في أرضى عدو أحاربه
فقالت الظريفة: قتلته قتلك الله! فالتفتت إليه مي فقالت: خف عواقب الله يا غيلان. ثم مضيت فيها حتى انتهيت إلى قوله:
إذا راجعتك القول مية أو بدا ... لك الوجه منها أو نضا الدرع سالبه
فيالك من خد أسيل ومنطق ... رخيم ومن خلق تعلل جادبه
فقالت الظريفة: ها هي ذه قد راجعتك القول وبدا لك وجهها فمن لنا بأن ينضو الدرع سالبه. فالتفتت إليها مي فقالت؛ قاتلك الله ما أنكر ما تأتين به! قال عصمة للنساء: إن لهذين شأنا فقمن بنا. فقمن وقمت معهن فجلست في بيت أراهما منه فسمعتها قالت له: كذبت والله. والله ما أدري ما قال لها وما أكذبته فيه. فلبث قليلاً ثم جاءني ومعه قارورة فيها دهن، وقلائد. فقال لي: هذا دهن طيب أتحفتنا به مي، وهذه قلائد لجوذر، ولا والله لا أقلدهن بعيراً أبداً. وشدهن بذؤابة سيفه ثم انصرفنا، فكان يختلف إليها حتى تقضى الربيع ودعا الناس المصيف، فأتاني فقال: يا عصمة، قد رحلت مي، ولم تبق إلا الآثار، والنظر في الديار، فاذهب بنا ننظر في ديارها، ونقفو آثارها. فخرجنا حتى أتينا منزلها، فوقف ينظر ثم قال:
ألا يا اسلمى يا دار مي على البلى ... ولا زال منهلاً بجرعائك القطر
قال عصمة: فما ملك عينيه، فقلت: مه. فانتبه وقال: إنى لجلد وإن كان مني ما ترى. قال: فما رأيت أحداً كان أشد منه يومئذ صبابة ولا أحسن عزاء وصبراً، ثم انصرفنا وتفرقنا، وكان آخر العهد به.
أخبر نا محمد بن الحسن ثنا أبو العباس: في قوله عز وجل: " من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه " قال أبو العباس: أصل الحرث حرث الأرض، وهو ها هنا العمل.
وأنشدنا أبو العباس:
فجال علينا بإبريقه ... مخضب كف بفرصادها
يقول: كفه مخضوبة بمثل التوت.
فباتت ركاب بأكوارها ... وخيل لدينا بألبادها
لقوم فكانوا هم المنفدين ... شرابهم قبل إنفادها
أراد: قبل إنفاد عقولهم.