وجدير بالذكر هنا أن رجفة فؤاده عليه الصلاة والسلام تشير إلى الرعب الذي اعتراه لأن الوحي نزل عليه فجاءة ولم يكن يتوقعه، كما قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} 1 وكما قال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} 2. وليس في رجفة فؤاده أي إيماءة إلى تبرد أطرافه الذي يتبعه عادة شحوب في الوجه واصطكاك في الأسنان، فلقد كان على العكس ترتفع درجة حرارته، فيحمر وجهه وتأخذه البرحاء حتى يتفصد جبينه عرقا ويثقل جسمه -كما رأينا- فيكاد يرض فخذه فخذ الجالس إلى جنبه، والتماسه الدثار من خديجة بقوله: "زملوني" لا يعني أكثر من لجوئه إلى الفراش؛ ليستجم تحت الدثار ويستريح من أثر المشهد الغيبي المخيف، والقول الثقيل العنيف، ولذلك أمره الله بعد رجعة الوحي إثر انقطاعه بالوثوب والنهوض لحمل أعباء الدعوة إلى الله فقال: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ} ثم قال بعدها: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} .
أما حاله عند تلقي الوحي أول مرة فكانت -كحاله بعد ذلك في كل مرة- خير ما يرام كمال وعي، ووفرة نشاط، وقوة أعصاب، فلا مجال قط لاحتمال وسائل تحضيرية يستجمع بها شتات ذهنه، ولا نوبات عصبية تلم به، ولا أعراض مرضية تعتريه3.
وربما لم تكن أضعاث الأحلام في نظر العرب سوى شطحات الجنون.
فلذلك قالوا: {مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} 4، وقالوا: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} ، ورد الله افتراءهم مسليا نبيه، فقال: {نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} .