أما افتراءات المختلق أو تخرصات الكذوب فتردها شهادة العرب أنفسهم لمحمد بالصدق والأمانة، والكذب المفترى لا يلبث أن ينكشف، ففي أي شيء كذب النبي؟ في أخبار الغيب أم أخبار الماضي أم أخبار المستقبل المحجوب، وهل كانت ثقافة العرب المحدودة تسمح لهم بأن يكونوا في هذا الصعيد حكما على الكاذبين أو الصادقين.
لقد وصف القرآن نشأة الخلق الأولى ومصيره المحتوم، وفصل نعيم الآخرة وعذابها الأليم، وأحصى عدة أبواب جهنم وعدة الملائكة الموكلين بكل باب، وعرض هذا كله على العرب تحت سمع أهل الذكر وبصرهم ممن أوتوا الكتاب، وقال: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} 1: فمن أين لمحمد تلك المعارف الغيبية الواسعة في مثل بيئة قومه الأميين الوثنيين؟ هل هبط بها عليهم من كوكب في السماء، أم جاءهم بها من الشعرى والمريخ؟ ألم يصاحبهم قبل البعثة أربعين عاما فهل ضل الآن وغوى؟ ألم يسموه الصادق الأمين؟ {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} 2؟ فهل من عجب إذا علمه الله أن يبكتهم فقال: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} 3.
وكأي من خبر ماض قص القرآن به أحسن القصص عن أمم خلت، وصحح به أخطاء وردت في الكتب السابقة تتناول عصمة الأنبياء، وفند به بعض المغالطات التاريخية، وصور محمدًا شاهدًا الأحداث كلها، مراقبا إياها، كأنه يعيش في عصرها بين أصحابها، قص على نبيه قصة نوح ثم قال: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ