الأخيرة من القرآن فلحق بالرقيق الأعلى. وعلينا هنا أن نقدر جسامة الخطأ الذي يقع فيه بعض المفسرين وبعض الكتاب المعاصرين عن حسن نية حين يذهبون وراء خيالهم الخصيب فيصورون النبي نائما في غار حراء أول نزول الوحي عليه، مع أن رواية الصحيحين قاطعة في أن الوحي فاجأه وهو يقظ يلتمس الحقيقة ويبحث عن الله، ولذلك رعب وجاء خديجة يرجف فؤاده.
ولو وقع له هذا في المنام لزال خوفه ورعبه بعد اليقظة، فلأمر ما قال القرآن: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى، أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} ؟! 1.
بهذه الحساسية الواعية المرهفة صورت السيدة عائشة بدء الوحي فقالت: "أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله يتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وفي رواية "فَجَأَهُ الحق", وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: "ما أنا بقارئ"، قال: فأخذني فغطني -أي: ضمني وعصرني- حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: "ما أنا بقارئ"، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: "ما أنا بقارئ"، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} ، فرجع بها رسول الله يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: "زملوني زملوني"، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: "لقد خشيت على نفسي" , فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا: إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف, وتعين على نوائب الحق"2.