إشعاع، يظل غامضا بهذا التفسير، ولكن جمال النص يكاد ينطق بالإفصاح عن نفسه حين نتخيل في الآية الحق -وهو معنى مجرد- أشبه بالجسم القوي العنيف الذي ينفذ في جسم الباطل الضعيف الخفيف، فيرزح الباطل تحت وطأة الحق الشديدة التي تدمغه وتكاد تلصقه بالتراب، وتزهق روحه. وهكذا يجتمع في هذا المثل التجسيم والتشخيص والتخييل، وأما التجسيم ففي تصوير الحق بالقذيفة الثقيلة، وأما التشخيص ففي دمغ الحق الباطل وإزهاقه إياه, وأما التخييل ففي تصور نوع الثقل الذي تحدثه حركة القذف ثم الدمغ ثم الإزهاق، فإنها أصوات شداد توشك أن تكون صدى لعظام الباطل, وهي تتحطم وتقعقع1. وإذا قرأ السيوطي قوله تعالى في وصف جهنم: {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ، تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} 2 لم يجد في هذا المشهد المروع إلا استعارة معقول لمحسوس والجامع عقلي, مع أن تشخيص جهنم في هذه الآية هو الذي يجعل المشهد حافلا بالحياة والحركة، فهي مغيظة محنقة تحاول أن تكظم غيظها حين أالقي إليها المجرمون، ولكأن منظرهم البشع كان أشد من أن تتحمله وتصبر عليه، فتلقتهم بألسنة لهبها وهي تئز وتشهق، وبمهلها وقطرانها وهي تغلي وتفور، حتى كاد صدرها ينفجر حقدا عليهم، ومقتا لوجوههم السود. فليس في الصورة استعارة معقول لمحسوس فقط، وإنما استعيرت لجهنم شخصية آدمية, لها انفعالات وجدانية، وخلجات عاطفية، فهي تشهق شهيق الباكين، وهي تغضب وتثور، وهي ذات نفس حادة الشعور3.

لسنا ندعي أن تحليلات الأقدمين لمشاهد القرآن الفنية لم تكن تتيح لهم أن

طور بواسطة نورين ميديا © 2015