إبطال شيء منه1 فهي أمور لا سبيل إلى إنكارها بل يقوم عليها من الأدلة والبراهين ما لا يحصى، غير أنها أدخل في معاني الفلسفة القرآنية منها في بلاغة القرآن، وليست هي مادة التحدي لفصحاء العرب، وإنما تحدى القرآن العرب بأن يأتوا بمثل أسلوبه، وأن يعبروا بمثل تعبيره، وأن يبلغوا ذروته التي لا تسامى في التصوير، فما إعجاز هذا الكتاب الكريم إلا سحره. ولقد فعل سحره هذا فعله في القلوب في أوائل الوحي، قبل أن تنزل آياته التشريعية، ونبوءاته الغيبية، ونظراته الكلية الكبرى إلى الكون والحياة والإنسان.
ونحن إذا ألقينا نظرة على كتاب من الكتب التقليدية في "علوم القرآن" -كإتقان السيوطي مثلا- لنستخلص مه ما يتعلق بالأسلوب القرآني فقط باعتباره وجها من وجوه الإعجاز بالنسبة إلى السلف؛ وقعنا على أبواب مختلفة توحي عناوينها بالكثير مما ينطق به مفهومنا الحديث للإعجاز، ولكننا حين نمضي في قراءتها لا نستطيع أن نتملى فيها جمال القرآن، وإنما نكون بها فكرة عن ولوع علمائنا الأقدمين بالتفريع والتبويب واستنباط القواعد البلاغية الكثيرة من الشواهد القليلة، ها هو ذا السيوطي يصهر في "إتقانه" جميع المباحث القرآنية البلاغية التي التقطها من عدد لا يستهان به من المصنفات السابقة، وهو يشير إليها بأمانة وإخلاص, فيدرس تشبيه القرآن واستعارته، وكنايته وتعريضه وحقيقته ومجازه، وحصره واختصاصه، وإيجازه وإطنابه، وخبره وإنشاءه، وجدله وأمثاله وأقسامه، فلا يكاد يفوته فن من فنون القرآن الأدبية، ولا يكاد ينسى جملة مستجادة لأحد المفسرين يبرز بها موطنا من مواطن الجمال القرآني، ونحنى مع ذلك -بإكبارنا العنصر الأسلوبي وإشادتنا به عنصرا أساسيا في الإعجاز- لا نستطيع أن نكتشف في شيء من تلك المباحث التقليدية منبع السحر الأصيل للقرآن. إلا أننا لشديد ثقتنا بأن السحر كامن في صميم النسق القرآني في كل مقطع منه ومشهد، سنستعير بعض عناوين "الإتقان" وبعض الشواهد القرآنية مع تعقيب السيوطي عليها، ثم نتبعها بطريقة فهمنا لها وتملينا مواطن الجمال فيها، ولن يضيرنا أن تكون عناوين أبحاثنا مشتركة، لأن الاصطلاحات الخارجية الشكلية لا تغير شيئا من روحانية القرآن الداخلية العميقة.