حدثهم عن الله، فهو لا يفتري مثل هذا الحديث من تلقاء نفسه لأنه لا يكذب على الله. وقد أوضح النبي هذه الحقيقة في طائفة من أقواله وأعماله، ففي حديث له يقول: "إنما أنا بشر مثلكم، وإن الظن يخطئ ويصيب. ولكن ما قلت لكم "قال الله" فلن أكذب على الله" 1، وأكد في حديث آخر أنه لا يطلع على أفئدة المتخاصمين، ولا يعرف ما يجول في نفس من يحتكم إليه ولو كان يعاصره ويساكنه في بلده أو كان أقرب الناس إليه فقال: "إنا أنا بشر, وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعة من النار" 2, ومن المعروف أن بني أبيرق عمدوا إلى التضليل في قضية من قضايا السرقة على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، فدافعوا عن السارق حتى اقتنع الرسول ببراءته ولام قتادة بن النعمان على اتهامه الأبرياء فقال: "يا قتادة، عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير تثبت وبينة"! ثم لم يلبث أن نزل قوله تعالى: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا، وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} 3، فعلم النبي أن بني أبيرق خانوه ولجئوا إلى التضليل، فاستغفر الله مما وجهه إلى قتادة من العتاب والتوبيخ4.

وإذا عددنا رسول الله شاهدنا الوحيد على وعيه ظاهرة الوحي إليه، وعددنا اقتناعه الشخصي وسيلتنا الوحيدة لفصل ذاته عن ظاهرة الوحي، فها هو ذا النبي عليه الصلاة والسلام مقتنعا -من خلال ما سبق- بأن التنزيل القرآني مصحوب بانمحاء إرادته الشخصية، وانسلاخه من الطبيعة البشرية، حتى ما بقي له عليه الصلاة والسلام اختيار فيما ينزل إليه أو ينقطع عنه، فقد يتتابع الوحي

طور بواسطة نورين ميديا © 2015