أنزله الله، وشتان بين أسلوب محمد ولو كان أفصح البشر وأسلوب منزل القرآن صاحب القوى والقدر! فكان لزاما على العلماء أن يبالغوا في الحيطة والحذر، ويوجبوا على كل مستشهد بحديث قدسي أن يستهل العبارة بقوله مثلا: "قال رسول الله فيما يرويه عن ربه، أو قال الله تعالى فيما رواه عنه رسوله، أو قال تعالى في "الحديث القدسي"، بهذا التقييد والتحديد.

ولسنا الآن بسبيل الحديث عن إعجاز القرآن, فقد عقدنا له فصلا في أواخر هذا الكتاب، وإنما يعنينا التنبيه على وعي النبي نفسه الفرق الذي لا يتناهى بين حديثه وكلام الله. ولئن كانت هذه التفرقة ملحوظة حتى في الأحاديث التوقيفية، والقدسية ليكونن إداركها في آراء الرسول الدنيوية أولى وأجدر، وأوضح وأيسر.

ولن نذهب في المقارنة بعيدًا، فإن حادثة "تأبير النخل" أو تلقيحه قريب منا، مشهورة لدينا: مر عليه الصلاة والسلام بقوم على رءوس النخل: فقال: "ما يصنع هؤلاء؟ " , فقالوا: يلقحونه، يجعلون الذكر في الأثنى فتلقح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أظن يغني ذلك شيئا". فلما أخبرا بقول الرسول تركوا تلقيح النخل، فقال النبي: "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به فإني لن أكذب على الله عز وجل". ويلاحظ أن النووي سلك هذا الحديث في صحيح مسلم في باب "وجوب امتثال ما قاله عليه الصلاة والسلام شرعا دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي"1. ومعه رواية أخرى تنتهي بقوله عليه الصلاة والسلام: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" 2. فميز النبي تمييزا قاطعا بين تجربته الإنسانية الدنيوية الظنية التي يحتملها احتمالا ويرجو ألا يؤاخذه صحابته بها، وبين تجربته النبوية الدينية القطعية التي يأمرهم بالأخذ بها كلما

طور بواسطة نورين ميديا © 2015