فإذا قيل في إنسان: إنه من أولي الكشف والإلهام لم يسم به ذلك إلى درجة النبوة والوحي، لأن في كل وحي وعيا1، وفي كل نبوة شعورا بمعناها وإدراكا لمغزاها، وإنما يرمى "باللاوعي" من فقد الوعي، ويوصم "باللاشعور" من حرم الشعور!

وطبيعة الحقائق الدينية والأخبار الغيبية في ظاهرة الوحي تأبى الخضوع لهذه الأساليب "اللاشعورية" التي تستشف حجاب المجهول بالفراسة الذكية الخفية والحدس الباطني السريع. مثلما تأبى الخضوع لمقاييس الحس الظاهرة التي تخترق حرمات المجهول بالأدلة المنطقية والاستنباط المتروي البطيء2، وإنما تخضع لتصور حوار علوي بين ذاتين: ذات متكلمة آمرة معطية، وذات مخاطبة مأمورة متلقية.

وعلى هذا النمط رسم النبي الكريم فيما صح من حديثه طريقة نزول الوحي على قلبه، فقال: "أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي, فيفصم عني 3 وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول" 4، فكشف النقاب صراحة عن صورتين من الوحي: إحداهما عن طريق إلقاء القول الثقيل على قلبه، ولديه يسمع صوتا متعاقبا متداركا كصوت الجرس المصلصل المجلجل5؛ والثانية عن طريق تمثل جبريل له بصورة إنسان يشاكله في المظهر ولا ينافره، ويطمئنه بالقول ولا يرعبه، وما من شك في أن الصورة الأولى أشد وطأ وأثقل قولا، كما قال الله: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} 6 حتى كان يصحب الوحي فيها رشح الجبين عرقا، كما قالت السيدة عائشة أم المؤمنين: "ولقد رأيته

طور بواسطة نورين ميديا © 2015