ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا"1، بل كان وطأة الوحي في هذ الصورة تبلغ أحيانا من الشدة والثقل حدا يجعل "راحلته تبرك به إلى الأرض إذا كان راكبها، ولقد جاءه مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فثقلت عليه حتى كادت ترضها"2.

أما الصورة الثانية فهي أخف وطأ وألطف وقعا، فلا أصوات تجلجل, ولا جبين يرشح، بل تشابه شكلي بين الملقي والمتلقي، ييسر الأمر في الوقت نفسه على ناقل الوحي الأميل وعلى النبي المصطفى الكريم.

وفي كلتا الصورتين يحرص النبي صلوات الله عليه على وعي ما أوحي إليه، إذ قال في الأولى: "فيفصم عني وقد وعيت ما قال"، وفي الثانية "فيكلمني فأعي ما يقول"، فأثبت لنفسه الوعي الكامل لحالته قبل الوحي، وحالته بعد الوحي، وحالته أثناء الوحي، سواء أخفت أم اشتدت وطأة النازل القرآني عليه.

وبهذا الوعي الكامل لم يخلط عليه السلام مرة واحدة -طلية العصر القرآني الذي يضم كل مراحل التنزيل -بين شخصيته الإنسانية المأمورة المتلقية وشخصية الوحي الآمرة المتعالية، فهو واع أنه إنسان ضعيف بين يدي الله، يخشى أن يحول الله بينه وبين قلبه، ويبتهل إلى ربه في دعائه المأثور: "اللهم يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"؛ بل كان أول عهده بنزول الوحي -مخافة ضياع بعض الآيات من صدره- يعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليه وحيه، ويحرك به لسانه وشفتيه ليستذكره ولا ينساه، ويحرص على متابعة جبريل في كل حرف يدارسه إياه3، حتى يسر الله عليه حفظه بتفريقه وتنجيمه4، وأمره بالاطمئنان إلى وعده فقال: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015