لكن القرشية -باعتراف من جميع القبائل وبطواعية واختيار من مختلف لهجاتها- كانت أغزرها مادة، وأرقها أسلوبا, وأغناها ثروة، وأقدرها على التعبير الجميل الدقيق الأنيق في أفانين القول المختلفة1, فاصطنعت وحدها في الكتابة والتأليف والشعر والخطابة، حتى كان الشاعر من غير قريش يتحاشى خصائص لهجته ويتجنب صفاتها الخاصة في بناء الكلمة وتركيب الجملة والنطق بالأحرف, ليتحدث إلى الناس بلغة ألفوها، وتواضعوا عليها بعد أن أسهمت عوامل كثيرة في صقلها وتهذيبها2.

لقد صادف الإسلام إذن -حين ظهوره- لغة مثالية مصطفاة جديرة أن تكون أداة التعبير عند خاصة العرب لا عامتهم، فزاد من شمول تلك الوحدة وقوى من أثرها بنزول قرآنه بلسان عربي مبين هو ذلك اللسان المثالي المصطفى.

بيد أن هذه الوحدة اللغوية التي صادفها الإسلام حين ظهوره, وقواها قرآنه بعد نزوله، لا تنفي ظاهرة تعدد اللهجات قبل الإسلام وبقاءها بعده، بل من المؤكد أن عامة العرب لم يكونوا إذا عادوا إلى أقاليمهم يتحدثون بتلك اللغة المثالية الموحدة، وإنما يعبرون بلهجاتهم الخاصة، وتظهر على تعابيرهم صفات لهجاتهم, وخصائص ألحانهم3. قال ابن هشام: "كانت العرب ينشد بعضهم شعر بعض، وكل يتكلم على مقتضى سجيته التي فطر عليها، ومن ههنا كثرت الروايات في بعض الأبيات"4.

وبإزاء هذه الظاهرة التي لا يمكن دفعها، اكتفى القرآن بتحدي خاصة العرب وبلغائهم أن يأتوا بمثله أو بآية من مثله تثبيتا للوحدة اللغوية, بينما لجأ إلى التوسعة في القراءات، ومراعاة اللهجات، في أحرفه القرآنية السبعة التي خفف بها على العامة، ولم يكلفهم النطق بغير اللهجة التي تجري

طور بواسطة نورين ميديا © 2015