يختلف ذلك بأحوال المستفتين ومن لديه منهم معرفة ومن ليس كذلك، فمن له معرفة يمكنه الترجيح معها ولو بصفات القائلين أخبره وإلا حمله على معين وهذا توفيق حسن ظاهر، وما ذكره من العمل بأحد المتساويين ذكره القرافي وذكر أن الحاكم يحكم بأيهما شاء وقد حكى غيره الإجماع على منعه، وكيف يكون جواب الحاكم للمحكوم عليه إذا قال له رجحت علي خصمي بلا مرجح إلا بشهوتك، وقد أنكر الشاطبي القول بالتخيير غاية وبالغ في إبطاله وقال إن القولين عند المقلد كالدليلين عند المجتهد، فكما أن المجتهد لا يجوز له العمل بأحد الدليلين من غير نظر بل لا بد له من الترجيح أو الوقف، فكذلك المقلد إن تعذر الترجيح توقف ولا يختار بهواه لأن الشريعة وضعت لإخراج المكلف عن دائرة هواه، وقول المفتي للمقلد أنت مخير بين القولين إحداث قول ثالث بلا دليل وإن لم يوجد في المذهب نص فهل يقيس على المنصوص بشروط القياس ولا يخرج عن قواعد المذهب وهو المشهور والراجح، وقيل له الخروج عنه وقيل لا يقيس أصلا، وبقي من أقسام العارف ثالث وهو من تخلف فيه إتقان صرفة القواعد، وما ذكر بَعْدَهَا مَعَ اتصافه بما اتصف به الذي قبله من التفقه والتبحر والاستحضار فهذا له الفتوى بما حفظه من نصوص المذهب بما هو مطابق لعين النازلة، ولا بد أن يكون عنده من علم العربية ما يفهم به معاني الكلام إفرادا وتركيبا، ومن الفهم ما يحسن به التطبيق ولا يقيس ما لا نص فيه على المنصوص، ولا يخرج حكم مسألة على نظيرتها لفقده آلات القياس فقد يفرق بين المتساويين أو يعكس، وأما من حصل بعض المختصرات من كتب المذهب فيها مسائل عامة مخصوصة في غيرها ومطلقة مقيدة في غيرها أو فيها ضعيف وغيره ولا تحقيق عنده ولا علم بالمخصصات والقيود ولا تمييز للمشهور من الضعيف فهذا تحرم عليه الفتوى بما حصله لأنه هو والعامي المحض سواء في الجهل بما تجب به الفتوى، وقد كان بعضهم يفتي وهو لا يعرف إعراب بسم الله الرحمن الرحيم استنادا منه لحفظ أقوال مالك وأصحابه وظاهر قول المازري في كتاب الأقضية أن فعل هذا لا يجوز.
واعلم أن المفتي مخبر عن الله تعالى ومن أخبر عنه تعلى مع عدم ضبطه ذلك الخبر فهو عند الله تعلى بمنزلة الكاذب عليه، والمقلد الذي يريد القياس على مسائل إمامه نسبته إلى مذهب إمامه