طلب العلم الشرعي لا يعارض الدراسة المنهجية لتحصيل الوظيفة والعمل

بعض الإخوة عندهم نوع من الخلل في مفهوم التوازن والوسطية، ويظنون أنهم ينجزون شيئاً عظيماً، فبعضهم يقول: أنا لا أستطيع إيجاد التوازن بين الدراسة وبين تعلم العلوم الشرعية أو حضور دروس العلم، فتجد الواحد من هؤلاء إما أن ينقطع تماماً إلى العلوم الشرعية ولو أخل بكل الواجبات الأخرى، وإما أن ينغمس تماماً في الدنيا ويخل بطلب العلم ونحو ذلك، وهذا السؤال ليس له محل من البداية أصلاً؛ لأن هذا السؤال لا نحتاجه إلا عند حصول التعارض بين واجب وواجب آخر، فعند التعارض نحتاج إلى الترجيح، لكن متى ما أمكن الجمع فيجب أن نجمع بين الواجبات، والأصل أن المسلم بحكم كينونته عبداً مسلماً طائعاً لله سبحانه وتعالى، ومنفذاً لشريعته على نفسه ومن يليه؛ تتعدد وظائفه، ولا يصح أن يقول: أنا أقوم بواجبي كأب ويضيع واجبه كابن، فينشغل بحقوق أولاده عن بر والديه، أو العكس ينشغل ببر والديه ويضيع تماماً حقوق زوجته وأولاده، وهكذا.

أنا أتعجب لماذا دائماً نفترض التعارض بين الواجبات، في حين أن الحديث يحسم هذه القضية تماماً: (فأعط كل ذي حق حقه)؟! كذلك هناك من الناس من ينشغل بالرزق وتحصيل الرزق ويخدع نفسه ويقول: العمل عبادة، ويريد بهذا القول ألا يصلي مع الجماعة، وكأن الصلاة ليست عبادة، والعمل هو العبادة.

هذا المفهوم في غاية الخطورة، وهو ناشئ عن التصور القاصر في العلاقة بين الأمور.

أما بالنسبة للإخوة الطلبة الذين لا يريدون أن يتحملوا المسئولية، ويريدون أن يكون كل شيء على هواهم، فإذا كانت الدراسة لا يستسيغها ولا يحبها، فتراه يستتر خلف القراءة في كتب الدين، حتى إذا ما انتهت الامتحانات التي كان يهرب منها، فلا يقرأ في دين ولا يقرأ في دنيا ولا يعمل أي شيء، فهو ينكشف مع الوقت أنه كان يهرب، فالهروب لا يحل المشكلة، بل ستظل ماثلة أمامه، فالإنسان يكون صريحاً مع نفسه.

نقول: إن فترة الطلب سواء في جامعة أو في مدرسة من أخطر فترات حياة الطالب ويستطيع أن يغتنمها في تحصيل أمور كثيرة جداً؛ لأنه بعد ذلك في الغالب ينشغل، ويكون الأمر بعد التخرج أصعب، وتكون مشاغل الحياة أكثر، خاصة إذا تزوج ورزق أولاداً، فالهموم تزداد، وقدراته على التحصيل في الغالب تقل، إلا من يسر الله عليه.

فالشاهد أن فترة الدراسة فترة مثمرة جداً، ولو أحسن المرء استخدامها يكون النجاح إلى حد كبير، ويستطيع أن يجمع بين كثير من الأمور الخيرية.

لكن هناك نقطة مهمة جداً وهي أن الإخوة الطلبة يقولون: كيف نترك الدراسة الدينية ونذاكر الكلام الفارغ، نقول: إن حكم الدين، أن الابن إذا بلغ النكاح، وصار مكلفاً، فعليه أن ينفق على نفسه، لكن بما أن ظروف الحياة حالياً انتهت إلى أن فترة الطفولة الاقتصادية قد طالت؛ وذلك لأن الوظائف الآن لا تنال إلا بشهادات في الغالب، والطالب يظل يتلقن هذه العلوم إلى حد فترة بعيدة قد تمتد أكثر من أربع وعشرين أو خمس وعشرين سنة.

ونحن نلاحظ أن الأب في بلادنا الإسلامية هو الذي يتحمل نفقة ابنه ليفرغه لطلب العلم، فما على الابن إلا أن يشتغل بدراسته، وأن يحفظ دروسه ويذاكر؛ لأن هذا عمله ووظيفته، ولأجل تفريغه لهذه الوظيفة يتكفل والده بالنفقة عليه، فيفرغه لمصلحه الدراسة.

إذاً: على الإنسان أن يكون واضحاً مع نفسه، وألا يهرب من الدراسة ويقول: أنا سأقرأ كتباً دينية؛ لأنه مهما كان إقبالك على طلب العلم الشرعي فلا بد في النهاية أن تكون لك وظيفة تشتغلها، وإلا هل سيبقى المتدينون من العاطلين عن العمل أو سيرتزقون من وراء الدين؟! لو كان الأمر هكذا فليدخل كلية أزهرية من البداية، ويسلك المسلك الطبيعي الذي يؤدي به إلى أن يطلب العلم، وفي نفس الوقت تكون له وظيفة، لكن معظم الناس ليسوا كذلك.

إذاً: وظيفة الطالب الأساسية هي الدراسة والمذاكرة، فالدراسة ليس لها حل إلا أن ينهيها ويكملها، قال الفقهاء: من شرع في فرض كفاية لزمه أن يتمه.

خلاصة الكلام: ترك الدراسة والبحث عن عمل بدون شهادة فيه مشقة شديدة، والتعرض للفتن يكون أكبر في الغالب؛ لأنك ستكون محكوماً، وستواجه صعوبة في التعامل معك، والعمل في القطاع الخاص يكون الوقت فيه أوسع، وبالتالي ينهك أكثر، ويحرم من دروس العلم، ويحرم من طلب العلم، فلو جاء يقارن بين من يشتغل وبين من يدرس، يجد أنه في فترة الدراسة يكون في سن الشباب، ويبذل للدعوة ويجتهد في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى بحرية، وفي نفس الوقت إذا قارن الشغل الذهني الذي يستخدمه في المذاكرة يجده أخف بكثير من الشغل المفروض، فلو قطع علاقته بالمذاكرة والدراسة وذهب ليشتغل ففي الغالب يكون شغله شاقاً، وأنتم تعرفون ظروف البطالة والأوضاع التي نحن فيها، ففي هذه الحالة نلاحظ أن الآباء يتعذبون مع أولادهم عذاباً شديداً، تجد الأب كل رغبته أن يضحي ويبذل من أجل أن يكمل ولده الدراسة، وهو لا يريد من ابنه شيئاً، بينما تجد الابن ينفر من تحمل مسئوليته وهي الدراسة والمذاكرة! فأقول للذي يهرب من المذاكرة ويترك الدراسة ويذهب ليعمل: عليك أن تراجع نفسك، وأن تكون صريحاً معها؛ لأن بعض الناس يغتنم فترة الدراسة، فتجد أن أباه يبعث له نقوداً من أجل الدراسة، وهو مع ذلك لا ينفق هذه النقود على كتب الدراسة، بل ينفقها لشراء كتب دينية، فأقول: أنت مؤتمن على هذا المال، وأبوك إنما بذله لكي تتفرغ لدراستك وتشتري كتبك وهذه الأشياء، فلا يجوز لك أن تخدعه ولا تأتي بالكتب الدراسية؛ لأنها كتب علوم دنيوية.

أنا لا أنفر من العلوم الشرعية؛ لأنها أشرف العلوم على الإطلاق، لكن أقول: إن فترة الدراسة أفضل فرصة يحصل فيها الإنسان العلم الشرعي، ويجتهد في العبادة، ولا تعارض على الإطلاق بينها وبين العلوم الدنيوية، فلماذا دائماً نفترض التعارض؟ والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (إن لجسدك عليك حقاً) يعني: عليك أن تحافظ على صحتك؛ لأنك مطالب بحماية صحتك والاعتناء بها.

ثم يقول عليه الصلاة والسلام: (ولربك عليك حقاً, ولضيفك عليك حقاً, ولأهلك عليك حقاً, صم وأفطر، وصل وائت أهلك، فأعط كل ذي حق حقه).

فخلاصة الكلام: إن ظاهرة الهروب من الدراسة تكثر أيام الامتحانات، فترى الواحد يراجع نفسه ويقول: هل أدرس أم لا أدرس؟ ونقول: إن أيام الامتحانات أسبوع أو أسبوعان ثم تأتي إجازة طويلة عريضة، فما عليه لو توقف عن قراءة العلم الشرعي الآن وبعد أسبوعين أو ثلاثة يرجع إلى قراءة الكتب الدينية، ويرينا همته الحقيقية؟! على الطالب أن يستغل النعمة العظيمة التي هي نعمة الصحة والفراغ، يقول عليه الصلاة والسلام: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ) فإذا جمع الله لك النعمتين فاستغلهما كما ينبغي.

هذا تنبيه لزم التنويه عليه؛ نظراً لما يدور في أذهان كثير من الناس، ترى الواحد منهم لا يريد أن يعمل ولا يريد أن يذاكر، ولا يريد أن يدخل الامتحان بحجة طلب العلوم الشرعية! أقول: كن صريحاً مع نفسك، إن كنت تريد الهروب من هذه الأمور فلا تتستر وراء العلم الشرعي، اترك الدراسة واسلك طريقاً آخر ولا تقل: إن العلوم الشرعية هي التي عطلتني.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015