إن الصلاة هي القاسم المشترك بين عبودية الكائنات، فإن الله سبحانه وتعالى قال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور:41] فكل من هؤلاء المذكورين قد علم صلاته وتسبيحه التي علمه الله عز وجل إياها.
يقول الزمخشري: ولا يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه، كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها.
فكل الكائنات هداها الله سبحانه وتعالى كما قال الله عز وجل: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:2 - 3]، وقال سبحانه: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] ونحن نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى هدى هذه الكائنات إلى ما يصلحها ويفيدها، وأمدها بأنواع من العلوم التي تنبهر العقول البشرية إزاءها بلا شك، وهذا معروف الآن في العلوم والاكتشافات الحديثة، ففيها ما يبهر العقول ويذهل النفوس من عجائب خلق الله سبحانه وتعالى، كما نرى في النحل والنمل وفي كل ما خلق الله سبحانه وتعالى، نلاحظ كيف أن الله ألهم هذه المخلوقات من العلوم ما تنبهر به العقول، فهل يبعد عند العاقل أن الذي ألهمها كل هذه العلوم لا يلهمها كيف تسبحه وكيف تذكره تبارك وتعالى؟! فالموج يسبح، والطيور تسبح، والأسماك تسبح، وكل ما خلق الله يسبح كما قال الله عز وجل: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44].
نحن الآن نناقش أن الصلاة عبودية جميع الكائنات، بل هي قاسم مشترك بين عبودية جميع الكائنات، فكل الكائنات تصلي وتسبح الله {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور:41] وكذلك الجن باعتبارهم أحد الثقلين مكلفون قطعاً بالصلاة كالآدميين؛ لأنهم داخلون في قول الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: الجن مأمورون بالأصول والفروع بحسبهم، فإنهم ليسوا مماثلين للإنس في الحد والحقيقة، فلا يكون ما أمروا به وما نهوا عنه مساوياً ما على الإنس في الحد، لكنهم مشاركون الإنس في جنس التكليف بالأمر والنهي والتحليل والتحريم.
يعني: هم يشتركون معنا في جنس التكليف، أما كيفيته فالله أعلم بهذه الكيفية.
كذلك أيضاً الملائكة يصلون؛ لأن الله عز وجل قال في حقهم: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38]، وقال أيضاً حاكياً عن الملائكة أنهم قالوا: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} [الصافات:165] يعني: في صلاتهم.
والشريعة الغراء ندبتنا إلى النظر إلى من هو فوقنا في العبادة وفي الدين، ولا ننظر إلى من هو أعلى منا في الدنيا؛ كي نقتدي به، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (انظروا إلى من هو أسفل منكم في الدنيا، وفوقكم في الدين) وقال عز وجل: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف:205]، وبعدما أمر الله عز وجل بالذكر الدائم وفي كل الأحوال ذكر ما يقوي دواعي الذكر، وما ينهض الهمم إليه بمدح الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار ولا يفترون، فقال بعدها مباشرة تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف:206] والمقصود أنه ينبغي لكم الاقتداء بهم فيما ذكر عنهم؛ لأنه إذا كان هذا حال الملائكة في عبادة الله وهم في أعلى مقامات القرب والعصمة، فكيف ينبغي أن يكون غيرهم؟! وقال صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها) ثم ذكر كيفية الاصطفاف فقال: (يتمون الصف الأول فالأول، ويتراصون في الصف) رواه البخاري.
أيضاً مما فضلت عليه هذه الأمة المحمدية على من عداها من الأمم قوله عليه الصلاة والسلام -كما في صحيح مسلم:- (جعلت صفوفنا في الصلاة كصفوف الملائكة).
وعن حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه إذ قال لهم: أتسمعون ما أسمع؟ قالوا: ما نسمع من شيء، قال: إني لأسمع أطيط السماء، وما تلام أن تئط -وهذا الأطيط من شدة الثقل الذي تحمله- وما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم) فهذا يدل على أن الملائكة أيضاً يصلون كما يصلي البشر.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إني لأرى ما لاترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجداً).
وفي حديث الإسراء قال صلى الله عليه وآله وسلم: (فرفع لي البيت المعمور، فسألت جبريل فقال: هذا البيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر ما عليهم) رواه البخاري.
سبعون ألف ملك يومياً يصلون في البيت المعمور في السماء، ثم لا يعودون إليه أبداً! وقال صلى الله عليه وسلم: (نزل علي جبريل فأمني، فصليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، يحسب بأصابعه خمس صلوات) رواه البخاري.
كذلك الملائكة يشاركون المؤمنين في الصلاة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أمن الإمام فأمنوا، فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري.
وكذا يحضرون مع المؤمنين صلاة الجمعة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد الملائكة يكتبون الأول فالأول، فإذا جلس الإمام طووا الصحف، وجاءوا يستمعون الذكر) رواه البخاري.