قال جل وعلا مخاطباً خليله محمداً صلى الله عليه وسلم، وكما لفتنا النظر من قبل أن الأليق والأنسب ألا ننقص النبي صلى الله عليه وسلم حقه، فأغلب الناس حينما يذكرون مثل هذا يقولون: خاطب حبيبه، فكيف نصفه بالمحبة وهو قد حباه الله بما هو أرقى وأرفع وأعلى من المحبة، وهي الخلة؟! قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً)، فينبغي إذا أردنا التعبير عن محبة الله لنبيه عليه الصلاة والسلام أن نصفه بخليله؛ لأنها أعلى درجات المحبة.
قال عز وجل مخاطباً خليله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:97 - 99].
هذه الآية فيها إشارة إلى النجاة من أذى أعداء الدين وأعداء الدعوة، فقوله: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ) يعني: مما يؤذونه به، يقول عز وجل: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً} [آل عمران:186].
إذاً: هذا ليس جديداً على المؤمنين، هذا سبق الإعلام به والتحذير منه.
وقوله: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ) عبر هنا عن الصلاة بالسجود، كما تقول: صليت ركعة، والركعة فيها قيام وركوع وسجودين وجلسة وتشهد، فهو تعبير عن الكل بالجزء، وهذا مثله، (وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ).
وقوله: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) فإن في ذلك شرحاً للصدر، وتفريجاً للكربة، وهكذا كان هديه العملي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة؛ لأنها الملجأ والمأوى والملاذ، قال حذيفة رضي الله تعالى عنه: (رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وهو مشتمل في شملة يصلي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى).
وقال أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه: (لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا نائم، غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويدعو حتى أصبح).
وعن ثابت رضي الله عنه: قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابته خصاصة نادى أهله صلوا صلوا)، قال ثابت: وكان الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة).
وروي عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان ليلة ريح شديدة يفزع إلى المسجد حتى تسكن الريح).
كذلك كان إذا حدث في السماء حدث من خسوف شمس أو قمر فإن مفزعه إلى الصلاة حتى ينجلي، فهذا هو شأن القلب الحي.
نحن في هذا الزمان ابتلينا بجاهلية العلم، وقديماً كان عندهم جاهلية الجهل، أما الآن فعندنا جاهلية العلم، نقصد العلوم التجريبية التي استعملت في التمويه على الناس وصرفهم بعيداً عن حقائق الأمور، فهي جاهلية مغطاة بثوب العلم، إذا حصل كسوف أو خسوف أو زلزال أو غير ذلك من هذه الأشياء يقولون: هذه ظواهر طبيعية! ويشغلون الناس بقوة الزلزال كم درجته، والشروح الطويلة في طبقات الأرض وتكوينها، وغير هذه الاصطلاحات المعروفة، وإذا حصل بركان يظلون ينشغلون بتحليل البركان وصفاته كنوع من التحليل، وكدراسة وصفية لمثل هذه الظواهر فقط، وكل بركان نزل على الناس فأحرقهم وكل زلزال واقع عليهم فأهلكهم فهذه أشياء تقع في الوجود بأسباب يسببها الله سبحانه وتعالى، لكن هذه الأسباب لا تنفي أنها نذير من الله عز وجل، وبسبب هذه التحليلات العلمية يحرم الناس من الاعتراف بهذه البلايا وهذه المصائب، بسبب هذا الحجاب الذي يوضع على أعينهم، فهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، وينشغلون بظاهر الأمور دون النفاذ إلى بواطنها وما ورائها من الحكم، لذلك كان صلى الله عليه وسلم إذا وقعت ريح شديدة أو رأى سحباً في السماء يظل يخرج ويدخل ويتغير شكله عليه الصلاة والسلام، فإذا سأله الصحابة عن ذلك قال: (وما يؤمنني أن تكون فيها عذاب من الله سبحانه وتعالى؟! وقد رأى قوم مثل هذا فقالوا: هذا عارض ممطرنا، {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف:24])، فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام دائم الوجل والخوف والفزع من عقوبة الله تبارك وتعالى.