قد ترى تارك الصلاة الأثيم رائحاً غادياً لا يحس بعظم وزره وشناعة فعله، ولا يشعر بعقوبة الله إياه، كما يقول الشاعر: وما لجرح بميت إيلام فاعلم أن أشد العقوبات ما خفي ودق، ففقدان الشعور بالمصيبة هو في حد ذاته أعظم مصيبة؛ لأن الإنسان قد يعاقب بأشد أنواع العقوبة وأخطرها وهو مع ذلك لا يحس بها.
فالله عز وجل يعاقب بأنواع من العقوبات: عقوبات كونية قدرية كالزلازل وغيرها من المصائب المعروفة، وعقوبات شرعية كإقامة الحدود مثلاً على ذنوب ومعاص معينة، وهناك العقوبة بالأمراض والابتلاءات، وهناك العقوبة بتسليط الظالمين، فالعقوبات متعددة، وأنواعها كثيرة، إلا أن أخطر أنواع العقوبات أن يعاقب الإنسان ولا يحس أنه يعاقب؛ لأنه إذا فقد الإحساس فإنه يرتكب إثماً وبالتالي لن يشرع في إصلاح أحواله أو التوبة إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأنه ممن زين له سوء عمله فرآه حسناً، فإذا رأى الإنسان الحسن قبيحاً والقبيح حسناً، فكيف سيتوب منه؟! فهذا بلا شك من أخطر أنواع العقوبات، وهو ما خفي ودق ولم يتفطن إليه صاحبه، فصاحب هذه العقوبة الخفية يغفل عن مصابه، فهو بمنزلة السكران والمخدر الذي لا يشعر بالألم فلا يسعى في خلاص نفسه، وفاقد الإحساس مثل الشخص الذي يبتلى بمرض السكر، ولا يحترم نظام الأدوية والأغذية إلى آخره؛ فتبدأ الأضرار تتفاقم عليه لاسيما على أعصابه، فمريض السكر يقولون له: اهتم بالقدم؛ لأن القدم عضو خطير جداً في مرض السكر؛ لأنه لو حصلت مضاعفات في أعصاب القدم يفقد الإحساس، وربما ينخلع النعل من رجليه ولا يشعر به، فبالتالي يدخل في قدمه زجاج أو أي نوع من هذه الأشياء فتتفاقم المشكلة إلى أن تنتهي أحياناً إلى حصول الغرغرينة، ويتحتم قطع القدم أو الساق؛ بسبب عدم الإحساس، فهو لما لم يحس أصيب وهو لا يشعر، وتفاقمت المصيبة حتى انتهت بالبتر ونحو ذلك كما هو معلوم، كذلك صاحب الغفلة قد يعاقب ويصاب دون أن يشعر بأن هذه المصيبة تهدد كيانه، فهو كالسكران وكالمخدر تحت البنج الذي لا يشعر بالألم، ولا يسعى في خلاص نفسه، ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم التألم للذنب من علامات صحة القلب وبقاء الحياة فيه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سرتك حسنتك وساءتك سيئتك فأنت مؤمن) فالمؤمن ليس معصوماً؛ لأنه لا معصوم إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فمن سرته حسنته، وساءته سيئته، فهو مؤمن؛ لأنه لم يفقد الإحساس بالذنوب، ولا زال يستطيع أن يحكم على القبيح بأنه قبيح، ويرى الحسن في صورة الحسن.
إذاً: وجود الإحساس في القلب والتألم للمعصية والسرور بالطاعة علامة على حياة هذا القلب.
فما دام هناك قلب ينبض، وما دام هناك دم يجري في العروق ويسري وما دامت الروح لم تغادر البدن، فهناك أمل وفرصة أمام الإنسان ليرتقي إلى أعلى مراتب العبودية، حتى يصل إلى مرتبة الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وهناك فرصة أن يراجع الإنسان نفسه ويعود إلى ربه، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19].
قوله: (نسوا) أي: ضيعوا أوامر الله سبحانه وتعالى ولم يرقبوه.
قوله: (فأنساهم أنفسهم) يعني: تركهم الله سبحانه وتعالى مثل قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67] يعني: فتركهم؛ لأن النسيان في حق الله ليس هو المضاد للذكرى أو التذكر، وإنما نسيهم بمعنى تركهم، وهذا أحد معاني النسيان، وقد فسر به قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} [طه:115] أي: ترك على أحد التفسيرين.
قوله: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) يعني: فتركهم ولم يوفقهم إلى التوبة، فترى الشخص المتلبس بمصيبة ترك الصلاة -التي هي أخطر ما يصيب الإنسان في دينه- لا يبالي بها، وتراه يغدو ويروح وهو مبتسم، وربما سخر من الذين يصلون أو تهكم بهم وغير ذلك، فهذا ينطبق عليه قوله تعالى: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) فلو كان عنده إحساس لبكى على مصيبة عدم الإحساس ونسيان الله إياه، فهؤلاء لم يوفقهم الله سبحانه وتعالى إلى التوبة لما سلط على قلوبهم من الغفلة التي تزهدهم في طاعة الله سبحانه وتعالى.
عن أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره: (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات -أي: عن تركهم صلاة الجمعة- أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين) فيسعى هذا الغافل في صلاح دنياه ولو خرب أخراه، وهو يحسب أنه يحسن صنعاً، فتراه إذا أصيب بمصيبة في الدين لا يبالي بها، أما لو أصيب بمصيبة في الدنيا -كما لو ضاع منه جنيه أو خمسة جنيهات- لأقام مأتماً وعويلاً، وحزن عليها حزناً شديداً.
يقول الإمام الحسن البصري رحمه الله تعالى في أهل الدنيا: بلغ والله من علم أحدهم بالدنيا أنه ينقد الدرهم فيخبرك بوزنه ولا يحسن أن يصلي.
يعني: إذا أمسك الدرهم وزنه في غاية الدقة بيديه، كأن يديه ميزان من شدة الخبرة في أمور الدنيا، وهو لا يحسن أن يصلي، فكيف لو رأى الحسن ما نحن عليه الآن في هذا الزمان من غرق الناس في أمور الدنيا، والخبرة بأتفه الأشياء في أمور الدنيا مع الجهل الأعمى بالدين وبالتوحيد ونحو ذلك من الأمور الهامة، فلو علم ذلك لاحتقر هذا المثال الذي ضربه بالنسبة لما نحن عليه الآن.
وقال أبو بكر بن عياش: مسكين محب الدنيا يسقط منه درهم فيظل نهاره يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، وينقص عمره ودينه ولا يحزن عليهما! الأيام تجري، والعمر في الحقيقة ينقص، لا يزيد، ومع ذلك بعضهم يعمل حفلة عيد ميلاده ويقولون له: عقبى لمائة سنة! وهذه في الحقيقة مصيبة كان عليه أن يحزن حزناً شديداً على الأيام التي فاتته؛ لأنه صار أقرب إلى القبر، بل هو من يوم ولد بل من يوم أن كان جنيناً في بطن أمه بل من يوم كتب في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وجرى القلم بما هو كائن؛ كتب أجله، وعدد الأنفاس التي يتنفسها، فبالتالي هو في كل لحظه يقترب أكثر إلى القبر.
إذاً: العاقل يحزن لفوات عمره ولا يقيم احتفالاً، وهذا مثال من ينقص عمره ودينه ولا يحزن، ولا يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، وإنما يفجع لمصائب الدنيا.
يقول الشاعر: ومن البلية أن ترى لك صاحباً في صورة الرجل السميع المبصر فطن بكل مصيبة في ماله وإذا يصاب بدينه لم يشعر وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تجعل مصيبتنا في ديننا)؛ لأن المصيبة في الدنيا تهون، وكل ما يفقده الإنسان من الدنيا يمكن أن يعوض، إذا مرض فإن المرض تعقبه العافية، وإذا فقد مالاً فيمكن أن يعوض عليه بمال آخر ويخلف الله سبحانه وتعالى عليه.
من كل شيء إذا ضيعته عوض وما من الله إن ضيعته عوض فالله سبحانه وتعالى إذا كسبته يعوضك عن كل شيء، وإذا خسرته فلا يعوضك عن الله شيء.
يروى في الأثر الإلهي: (ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكفلت برزقك فلا تتعب، ابن آدم! اطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء).