وقيل: كانت فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وآله مرضت مرضاً شديداً، فقالت لأسماء: ألا ترين أني قد بلغت ما بلغت من المرض، وإذا مت احمليني على السرير ظاهراً، فقالت أسماء: لا والله إني لأصنع لك نعشاً كما رأيته بأرض الحبشة، فقالت فاطمة رضي الله عنها: فأرينيه؟ فقالت أسماء: فأرسلت صبياً حتى أتاني بجرائد رطبة وجعلت نعشاً كما رأيته، وهو أول نعش وضع في العرب، فتبسمت فاطمة.
قالت أسماء: وما رأيتها قط متبسمة إلا في تلك الساعة، ثم جعلناها فدفناها ليلاً.
وروى عبد الله بن جعفر أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله دخل علينا بعد قتل أبي، وهو يمسح رأسي ورأس أخي وعيناه تذرفان بالدموع على لحيته، ثم قال: اللهم إن جعفراً قد قدم على أحسن الثواب، فاخلفه في ذريته بأحسن ما خلفت أحداً من عبادك في ذريته.
فقال عبد الله: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله يدي حتى رقى بي إلى المنبر، وأجلسني أمامه على الدرجة السفلى والحزن يعرف فيه، وقال: إن المرء كبير بأخيه وابن عمه؛ ألا إن جعفراً قد استشهد وقد جعل الله له جناحين يطير بهما في الجنة.
ثم نزل من المنبر فدخل بيته، وأدخلني معه، وأمر بطعام فصنع لأهلي وبعثه إلى أخي، وأجلسني وأخي في داره، وأمر خادمته سلمى حتى طحنت الشعير، ثم نسفته وخلطته بزيت، وجعلت عليه فلفلاً، فتغذيت أنا وأخي معه، وما أكلت في مدة عمري طعاماً أطيب من ذلك.
فأقمنا في بيته ثلاثة أيام ندور معه. فرآني بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وأنا أشتري شاة، فقال: اللهم بارك له في صفقته، فقال عبد الله: فما بعت شاة ولا اشتريت إلا بورك لي فيه.
وروى عثمان بن أبي سلمة أن النبي صلى الله عليه وآله مر بعبد الله بن جعفر وهو يصنع شيئاً من الطين كما يلعب الصبيان، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: ما تصنع بهذا يا عبد الله؟ فقال: أبيعه يا رسول الله، فقال عليه السلام: ما تصنع بثمنه؟ فقال عبد الله: أشتري به رطباً وآكله، فقال له النبي صلى الله عليه وآله: اللهم بارك له في صفقة يمينه، فكان ما اشترى شيئاً إلا ربح فيه.
قيل: طلب دهقان من عبد الله بن جعفر، وقال: اقض حاجة لي بما أوليتني، فأهدى إلى الدهقان ثلاثين ألفاً من الدراهم، فردها عليه عبد الله بن جعفر وقال: نحن أهل بيت لا يتبع شفاعتنا بالدنيا وما فيها. فقال الدهقان: إنك يابن جعفر نعم الفتى لطارق الليل إذا الليل أتى.
وكان أهل المدينة يستدين بعضهم من بعض، إلى أن يأتيهم عطاء عبد الله بن جعفر.
وكان يقال له: انظر لولدك، فقال عبد الله بن جعفر: إني علمت أن منع الموجود من سوء الظن بالمعبود.
قال ابن سيرين: جلب رجل سكراً من الشام إلى المدينة فكسر عليه، فقيل له: لو أتيت عبد الله بن جعفر لقبله منك وأعطاك الثمن، فأتى عبد الله بن جعفر، فأخبره بذلك، فابتهج بذلك، فأمر بإحضار الشكر ونثره بين يديه، وقال لأهل المدينة: انهبوا، فلما رأى البائع الناس ينهبون، قال: جعلت فداك أنهب معهم، فقال: خذ ما شئت، فجعل البائع يهيل في عرارته، فلما فرغوا من ذلك قال له عبد الله بن جعفر: كم ثمن شكرك، فقال له: أربعة آلاف درهم، فأمر له بذلك مع زيادة.
وقيل: أسخياء بني هاشم الحسن والحسين رضي الله عنهما وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن العباس.
كان الحسن بن علي رضي الله عنهما أسخى أهل العصر لا يعطي إلا الجزيل، فمن كان من أولاد الحسن بن علي رضي الله عنهما كان سخياً لا يعطي إلا الجزيل. والحسين بن علي رضي الله عنهما يعطي الجزيل والقليل، فمن كان من أولاد الحسين بن علي رضي الله عنهما كان سخياً يعطي الجزيل والقليل.
وكان عبد الله بن جعفر يعطي إذا سئل ويبتدىء إذا لم يسأل، ومن أفطر معه رمضان كان عليه قوته وقوت عياله إلى السنة. وعبد الله بن العباس لا يمسي ولا يصبح إلا وعنده أرباب الحوائج.
وقيل: ضاقت يد عبد الله بن جعفر، فصلى الجمعة في مسجد رسول الله عليه السلام وقال: اللهم إنك عودتني عادة جريت عليها، فإن انقضت مدة عادتي فاقبضني إليك وتوفني مسلماً وألحقني بالصالحين. فمات في الجمعة الأخرى، وتوفي وهو ابن ثمانين سنة مات عام العجاف.