وفي العزلةِ استثمارُ العقلِ، وقطْفُ جَنَى الفكرِ، وراحةُ القلبِ، وسلامةُ العرْض، وموفورُ الأجرِ، والنهيُ عن المنكر، واغتنامُ الأنفاسِ في الطاعةِ، وتذكُّرُ الرحيمِ، وهجرُ الملهياتِ والمشغلاتِ، والفرارُ من الفتنِ، والبعدُ عن مداراةِ العدوِّ، وشماتةِ الحاقدِ، ونظراتِ الحاسدِ، ومماطلةِ الثقيلِ، والاعتذارِ على المعاتِبِ، ومطالبةِ الحقوقِ، ومداجاةِ المتكبِّرِ، والصبرِ على الأحمقِ.
وفي العزلةِ سَتْرٌ للعوراتِ: عوراتِ اللسانِ، وعثراتِ الحركاتِ، وفلتاتِ الذهنِ، ورعونةِ النفسِ.
فالعزلةُ حجابٌ لوجهِ المحاسنِ، وصدَفٌ لدُرِّ الفضلِ، وأكمامٌ لطلْع المناقبِ، وما أحسن العزلةَ مع الكتابِ، وفرةً للعمرِ، وفسحةً للأجلِ، وبحبوحةً في الخلوةِ، وسفراً في طاعةِ، وسياحةً في تأمُّلٍ.
وفي العزلةِ تحرصُ على المعاني، وتحوزُ على اللطائفِ، وتتأملُ في المقاصدِ، وتبني صرح الرأيِ، وتشيدُ هيْكلَ العقلِ.
والروحُ في العزلةِ في جَذلٍ، والقلبُ في فَرَحٍ اكبرَ، والخاطرُ في اصطيادِ الفوائدِ.
ولا تٌرائي في العزلةِ: لأنهُ لا يراك إلا اللهُ، ولا تُسمعِ بكلامِك بشراً فلا يسمعك إلا السميعُ البصيرُ.
كلُّ اللامعين والنافعين، والعباقرِة والجهابذةِ وأساطين الزمنِ، وروَّادِ التاريخِ، وشُداةِ الفضائلِ، وعيونِ الدهرِ، وكواكبِ المحافلِ، كلُّهم سَقَوْا غَرْسَ نُبْلهم من ماءِ العزلةِ حتى استوى على سُوقِهِ، فنبتتْ شجرةُ عظمتِهم، فآتتْ أُكُلَها كلَّ حينٍ بإذنِ ربِّها.