استمر الأمر على ذلك في القرن الأول والثاني والثالث والرابع، وجمعت السنة، ولم يفت الأمة منها شيء؛ لأن الأمة معصومة من أن تفرط في شيء من دينها، لكن قد يقول قائل: ماذا عما يحفظه الأئمة من مئات الألوف من الأحاديث، الإمام أحمد يحفظ سبعمائة ألف حديث، الإمام أبو داود يحفظ ستمائة ألف حديث وهكذا، أين ذهبت هذه الأحاديث؟ البخاري بالمكرر لا يزيد على سبعة آلاف ومائتين وخمسين حديث، بالمكررات، مسلم قريب منه، أو يزيد عليه قليلاً، أوصله بعضهم إلى الثمانية، أعظم دواوين الإسلام المسند، أوصلوه إلى أربعين ألف حديث وبالعدد الدقيق والتحري يبلغ الثلاثين، أين ذهبت مئات الألوف من الأحاديث؟
ما ذهب منها شيء مما يحتاج إليه، لم يذهب من هذه الأحاديث شيء مما يحتاج إليه، فالعدد في عرف السلف للطرق، رب حديث واحد يروى من مائة طريق فيعد مائة حديث.
وإذا تصورنا أن أبا إسماعيل الهروي يقول: إن حديث الأعمال بالنيات يروى عن يحيى بن سعيد الأنصاري من سبعمائة طريق، إذن هذه سبعمائة حديث في عرف المتقدمين، وإذا نظرنا إلى ما دون في كتب السنة وحفظ، ونظرنا إلى الطرق سواءً كان المدون منها أو ما لم يدون مما لم يحتج إليه؛ لأنه لا يدون إلا المحتاج إليه، فتبلغ هذه العدة بل تزيد، إضافة إلى أن الحديث في عرف المتقدمين يشمل الآثار، يشمل أقوال الصحابة وفتاويهم، فلم يضِع من سنة النبي -عليه الصلاة والسلام- شيء؛ لأن الدين محفوظ، والأمة معصومة من أن تفرط بشيء من دينها.
بعد الكتابة وضعف الحفظ ظهر ذلك جلياً حينما اعتمد الناس على الكتابة، وكل قرن يظهر فيه ضعف الحفظ أكثر؛ لاعتماد الناس على الكتابة إلى أن ظهرت الطباعة، ولا شك أن الطباعة يسرت وسهلت تحصيل العلم واقتناء الكتب، لكنها على حساب التحصيل، لماذا؟