بعد ذلك السلف -رحمهم الله- لما اشتدت قوة أهل البدع، وبدءوا يصنفون، وأهل البدع من المعتزلة خاصة أريد أن أشير إلى المعتزلة، أكثروا جداً من التصنيف، فالسلف -رحمهم الله- مما يدل على فقههم وذكائهم وفطنتهم ورسوخ علمهم لم يقفوا مكتوفوا الأيدي، بل إنهم واجهوا هذه الوسيلة الإعلامية الضخمة، وهي الكتاب بأن تفننوا في التأليف، فبدأوا بإفراد كتب الاعتقاد، وكان أمراً عجباً، فنجد أن السلف -رحمهم الله- صنفوا مصنفات شاملة في كل كتب الاعتقاد منها المختصر، الرسائل المختصرة مثل رسالة الإمام أحمد في الاعتقاد، مثل رسالة الإمام البخاري في الاعتقاد، مثل رسالة سفيان الثوري في الاعتقاد، وهذه كلها مودعة من أراد أن ينظر إليها في المجلد الأول من شرح أصول اعتقاد أهل السنة لللالكائي، ثم بعد ذلك تطوروا فكبروا وتوسعوا وجعلوا هناك مصنفات شاملة بأحاديث مسندة واستدلالات وردود مثل كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد، مثل كتاب السنة لابن أبي عاصم، وكان هذا كله في الحقبة الأولى، وهي القرون الثلاثة الأولى، وبهذه المناسبة، وأنتقل إلى النوع الثاني كتاب السنة لابن أبي عاصم هذا أعجوبة، وأنا لم أجد أحداً من الباحثين أشاد فيه، كتاب السنة لابن أبي عاصم أنا أستطيع أن أشبهه بكتاب البخاري، فقد بوبه على أبواب تفصيلية، وأودع فيه فقهاً واستنباطاً، وردود على أهل البدع شيء عجيب، بل إنه كان يودع أبواب مرسلة، مثل الإمام البخاري كان يقول: باب وليس له ترجمة، وقد حصرتها فوجدت أن فيها من الفوائد والاستنباطات شيء عظيم، كمثال مثلاً لما أورد الحديث المشهور عن ابن عباس لما قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((يا غلام إني أعلمك كلمات .. )) المشهور والمعروف في كتب السنة وغيرها أنه عن ابن عباس، وهذه وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس، الإمام ابن أبي عاصم أورد الحديث المشهور ولكنه عقد باب مرسلاً وقال: باب -مرسل-، ثم أورد فيه هذا الحديث ليس عن ابن عباس وإنما عن جعفر ابن أبي طالب، هذه فائدة، أراد أن ينبه أنها فائدة فأفرده لوحده.