وأما إنسان الجاهلية المعاصرة، فهو أشد ضلالاً وانحصاراً في الحياة الدنيا وعالم الحس، وأشد بعداً عن القيم العليا وتكاليفها، لتكالبه على المتاع الحسي، ولأن صانعي هذه الجاهلية حريصون على إبعاده إبعاداً كاملاً عن كل قيمة إنسانية، ترفع الإنسان عن محيط الحيوان، لذلك تفننوا في تزيين الأرض، وتزيين المتاع الدنس بكل وسيلة تخطر - أو لا تخطر - على البال.
وفي الجاهلية كلها - قديمها وحديثها - حين ينحصر الناس في الحياة الدنيا ولا يؤمنون بالبعث والنشور والحساب والجزاء، تبدو الحياة في نظرهم عبثاً لا معنى له، ولا قيمة للقيم فيه، إلا بمقدار ما تخدم شهوات الإنسان ومصالحه في عمره المحدود، وتنتاب الإنسان الحيرة التي عبر عنها الشاعر الجاهلي المعاصر (إيليا أبو ماضي) في هذه الأبيات:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت! ... ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت!
وسأبقى ماشيا إن شئت هذا أو أبيت ... كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري!
ولهذا كانت الخمر دائماً جزءاً من الجاهلية، لأنها وسيلة للهروب من الشعور بعبثية الحياة، وهو شعور ثقيل على النفس، كما يغرق الناس في اللهو، لقتل الوقت الذي يظل فارغاً وثقيلاً، حين يفرغ الناس من صراعاتهم الهابطة ومصالحهم القريبة، ويبحثون عن هدف يملأ الفراغ فلا يجدون.
في الجاهلية العربية كانت الخمر ومجالس الشراب وألعاب الميسر وسيلتهم الكبرى للهروب. وفي الجاهلية المعاصرة صارت المخدرات إلى جانب الخمر، وصارت المراقص ودور اللهو ونوادي القمار. وفي الجانب الآخر صار القلق النفسي والأمراض العصبية، والانتحار والجنون، حين لا تفلح الوسائل كلها في رفع الشعور بعبثية الحياة عن كاهل الحس.
* * *