فما دام الخلود مستحيلاً - في واقع الحياة الدنيا - ((فالمنطق)) في الجاهلية أن يعب الإنسان من الشهوات بقدر ما يستطيع، لأنها فرصة واحدة، إن ضاعت لا تعود.
أما إنسان الجاهلية المعاصرة، فالشهوات في حياته هي الأصل الذي يعيش من أجله، وإن كان يعمل وينتج فمن أجل أن يحصل على الوسيلة التي تتيح له أكبر قدر من المتاع! يستوي في ذلك من كانت شهوته هي السلطة فيعمل على اكتسابها، أو شهوته هي الملك فيعمل على اكتسابه، أو شهوته هي الجنس ولذائذ الحس، وهي التي جعلتها الجاهلية المعاصرة سعاراً محموماً للصغير والكبير، والعاقل والمجنون، والرجل والمرأة على السواء!
أما الهدف فلا هدف في الجاهلية أبعد من الحياة الدنيا، وما فيها من المتاع المتاح: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} (الجاثية: 24) . {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} (المؤمنون: 37) . {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} (النجم:29- 30) . {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (الروم: 7) .
وحين ينحصر الإنسان في الحياة الدنيا وأهدافها القريبة - مهما بدت بعيدة - فإنه يفقد كثيراً من كيانه الذي خلقه الله له، حين خلقه من قبضة من طين الأرض، ونفخ فيه من روحه. يفقد القيم العليا، التي هي القوام الحقيقي للإنسان: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (ص 71-72) .
فأما إنسان الجاهلية العربية فقد كان أبعد همه هو القبيلة وما يدور حولها من أحداث وأحاديث، لذلك كان حفظ الأنساب والفخر والهجاء، وأخبار المعارك، والكر والفر، هي عالمه الذي يعيش فيه، ويعيش من أجله، ويقول فيه الشعراء شعرهم، ويكون هو سمرهم في منتدياتهم، وموضع تنافسهم فيما بينهم. إلى جانب ما يمارسونه من تكاثر في الأموال والأولاد، وما يمارسونه من الشهوات.