أما إنسان الجاهلية المعاصرة، فيعبد أرباباً أكثر عدداً وأشد خفاء من أرباب الجاهلية العربية. (فالمصلحة القومية) بديل من القبيلة العربية القديمة، أكبر وأخطر، وأشد استيلاء على نفوس أتباعها. (والرأي العام العالمي) بديل من عرف الآباء والأجداد، أكبر وأخطر، وأعنف تأثيراً على ((المستضعفين)) خاصة في كل الأرض، بينما هو صناعة مصنوعة على يد الشياطين الذين يحكمون الأرض، من وراء ستار أو بلا أستار. (والتقدم) إله. (والعلم) إله. (والعلمانية) إله. (والإنتاج) إله. (والحربية الشخصية) إله.
وناهيك عن الشهوات!
إنها في القديم والحديث أرباب معبودة من دون الله. أرباب تهلك عبادها وتسلمهم إلى البوار.
إنها في وضعها الطبيعي في صميم الفطرة، غذاء ضروري للنفس البشرية، لكي تقوم بنشاطها الطبيعي في عمارة الأرض، التي هي جزء من مهمة الخلافة التي خلق الله لها الإنسان: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: 30) . {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (هود: 61) . {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (آل عمران:14) .
ولكنها كما تكون غذاء صالحاً مفيداً تكون سما مهلكاً حين تتجاوز الحد. كالغذاء الجسدي سواء بسواء. فالجسم - لكي يقوم بنشاطه الطبيعي- يحتاج إلى قدر من البروتينات والنشويات والأملاح والفيتامينات، ولكنك إذا تجاوزت المقدار المناسب في أي منها، يحدث خلل في وظائف الجسم، فلا يعود يتمثل الغذاء تمثلاً صحيحاً، ولا يعود قادراً على بذل النشاط الطبيعي الذي يفترض أن يبذله، وتبدأ الأمراض. والنفس كذلك، تحتاج إلى هذه الشهوات أو ((الدوافع)) لتتحرك حركتها الطبيعية، التي يفترض أن تقوم بها في الحياة الدنيا، ولكنها إذا اتبعت إغراء هذه الشهوات- وهي لكونها محببة ومزينة تغري بالمزيد - فإن نظامها يختل،