ولكن، فلنقف لحظة لنسأل: ما الذي يحدث الشتات في النفوس؟ أو هكذا النفس بطبيعتها؟ أم إنها هكذا تصبح حين تترك بلا رعاية ولا عناية ولا توجيه؟ حين لا يقوم الإنسان ((بالتزكية)) المطلوبة منه تجاه نفسه: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (الشمس: 9- 10) .
يحدث الشتات من اتباع آلهة شتى. ويحدث من ضغط الشهوات. ويحدث من عدم اتخاذ هدف محدد في الحياة. تلك - على الأقل - ثلاثة أسباب رئيسية تحدث الشتات في النفوس، فيجيء الإيمان فيجليها، فتتجمع النفس من شتاتها وضياعها، وتصبح طاقة هائلة تتحرك وتحرك.
فأما إنسان الجاهلية العربية، فقد كان يعبد آلهة شتى بعضها ظاهر كالأصنام، وبعضها خفي كالقبيلة وعرف الآباء والأجداد.
فأما الأصنام فالحديث عنها مستفيض، حتى ليحسب الإنسان لأول وهلة أنها وحدها كانت هي الآلهة المعبودة من دون الله في الجاهلية العربية، ولكن الذي ينعم النظر يتبين أنها لم تكن وحدها المعبودة من دون الله، فانظر إلى الشاعر (?) الذي يقول:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد
فما عبادة الاتباع إن لم تكن هذه؟ يعرف أن قبيلته غاوية ثم يتبعها - على علم بغوايتها- لأنها في حسه رب معبود، لا تجوز مخالفته في الرشد ولا في الغي!
وكان عرف الآباء والأجداد رباً معبوداً من دون الله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (البقرة: 170) .
عرف الآباء والأجداد، الذي يجعل أبا طالب يحجم عن الإسلام - على كل حبه لابن أخيه صلى الله عليه وسلم، وكل حدبه ورعايته، وكل حمايته له من كفار قريش - لكي لا يقال عنه إنه خالف عرف الآباء والأجداد! فأي عبودية أشد من هذه العبودية؟