ولكن الله من فضله وكرمه لم يشأ أن يقهر الإنسان على التوحيد كما تخضع الكائنات الأخرى بالقهر، بل كرمه وفضله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (الإسراء: 70) .
ومن آيات هذا التكريم حرية الاختيار: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (الشمس: 7- 10) .
ومع أن هذه الحرية تكريم رباني تفضل الله به على الإنسان، فإن بعض الفطر تنتكس مستخدمة حريتها في عصيان الله والاستكبار عن عبادته، بدلاً من أن تختار الهدى وتستقيم عليه، فيصبح في الناس مؤمن وكافر: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} (التغابن:2) .
فأما الذين آمنوا فهم الذين استقاموا على الفطرة السوية، وعلى قدر صدق إيمانهم ورسوخه وقوته يكون ارتفاعهم في مدارج السالكين لتحقيق الغاية العظمى التي خلق الله الخلق من أجلها: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات:56) .
ماذا يفعل التوحيد في النفوس؟
أرأيت إلى قطعة الحديد حين يمرر فيها تيار كهربي أو يمرر عليها مغناطيس. ماذا يحدث في كيانها؟ يحدث - كما يقول علم الفيزياء - أن يعاد ترتيب ذراتها على نسق معين، فيصبح لها قوة كهربية مغناطيسية لم تكن لها من قبل، وتصبح طاقة محركة بعد أن كانت ساكنة لا تتحرك ولا تحرك.
أين كانت هذه الطاقة في كيانها؟ كانت مبعثرة مشتتة، فلم تكن تظهر ولم تكن تعمل، فلم يكن لها وجود واقعي مشهود. والآن تجمعت على نسق معين، فظهرت، وعملت، وصار لها آثار مشهودة في عالم الواقع.
شبيه بذلك ما يحدث في نفوس البشر حين تخالطها بشاشة الإسلام، حين تعرف التوحيد، حين تؤمن بلا إله إلا الله. تتجمع النفس من شتاتها وتتحدد وجهتها.