لقد وجدت تلك الجماهير من يشبع جوعتها الروحية، بطريقة ((متنورة)) تختلف عن حلقات الذكر التي يلجأ إليها العامة لإشباع روحانيتهم عند مشايخ الطرق الصوفية، والتي كان المثقفون ينفرون منها ولكنهم يفتقدون البديل المتنور، فوجدوه في شخص الإمام الشهيد وكلامه المؤثر، يشبع روحانيتهم ويحافظ في الوقت ذاته على وعيهم، فلا يغرق في الخدر الذي يسلب الشعور. ووجدت من يحيي آمالها في عودة الإسلام إلى الوجود، بعد النكسة الحادة التي أصابت الناس بزوال الخلافة. ووجدت من يرتفع بها عن ألوان الدنس التي كانت قد أخذت تلوث المجتمع، ويردها إلى المثل الرفيعة والأخلاق الفاضلة. وكل ذلك دون أن يتعرضوا لأية مخاطر، ولا يبذلوا من الجهد أكثر من الحضور والاستماع!

ولكن هذه الجماهير التي جاءت بهذه السهولة ذهبت بالسهولة ذاتها حين بدت في الأفق بوادر المخاطر! ذهبت ولم تعد! فما كان في تقديرها قط أن حضورها واستماعها سيعرضها لأية مخاطر، ولا كانت مستعدة أي استعداد أن تعرض نفسها للمخاطر. ولو عرفت ذلك أو توقعته من مبدأ الأمر ما جاءت ولا فكرت في المجيء!

لم يبق حول الإمام الشهيد إلا الذين رباهم على عينه، ووهب لهم طاقته الحقيقية وجهده الحقيقي.

هل كان كسباً للدعوة مجيء هذه الجماهير الحاشدة التي فرت عند أول بوادر الخطر، أم كان أحد أسباب التعويق؟

سننظر في هذا الأمر حين نستعرض ردود فعل الأعداء. ولكن لنا هنا وقفة: ما الذي جعل الدعوة تتجه في تلك الفترة الباكرة إلى الجماهير؟! إنه وهم حسن النية، يحسن الظن بأحوال الناس، ويعتقد أن نقطة الخلل عندهم هي فساد السلوك، فإذا وعظوا بالقول المؤثر فقد انحلت المشكلة، واستقامت هذه الجماهير على طريق الإسلام، وأصبحت جنوداً مخلصة للدعوة، أو في القليل خامات صالحة للتجنيد، فتتحرك بهم الدعوة نحو الهدف المنشود!

لم يتضح لأصحاب الدعوة في مبدأ الأمر- كما اتضح لهم فيما بعد- أن الخلل ليس مقصوراً على فساد السلوك، ولكنه واصل كذلك إلى المفاهيم، وخاصة فيما

طور بواسطة نورين ميديا © 2015