فأما التقدم العلمي والتكنولوجي فهو لا يشكل مشكلة للإنسان المسلم، وقديماً استوعب المسلمون كل الحركة العلمية التي كانت قائمة في الأرض، ثم أخذوا يضيفون إليها إضافات جذرية، أبرزها استخدام المنهج التجريبي في البحث العلمي، فضلا عن كشوف علمية أخرى كانت هي نواة التقدم الحالي. ولكن المسلم لا تهتز عقيدته حين يتعلم العلم، ولا يهتز إيمانه بالله واليوم الآخر، لأنه صاحب كيان سوي تتجاوز فيه- وتتعاون- نزعة الإيمان ونزعة المعرفة، بلا تعارض ولا تناقص ولا تضاد: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: 28) .

إنما حدث التعارض والتناقض في أوروبا، نتيجة خلل في الدين الذي كانت تعتنقه، وخلل في الكيان الذي أورثها إياه ذلك الدين، لا لأن الدين بطبيعته مناقض للعلم، ولا لأن العلم يمكن أن يكون بديلا من الدين! ولو أن الإسلام كان حياً في نفوس أصحابه، وليس مجرد تقاليد خاوية من الروح، فقد كانت الأمة الإسلامية قمينة أن تقدم للبشرية نموذجاً حضارياً مختلفاً عن النموذج الجاهلي الغربي الذي ينتقل من اختلال إلى اختلال، والذي لا يستوعب في أي طور من أطواره إلا أحد شقي الإنسان: إما الشق الروحي، وإما الشق المادي. إما الشق الذي يعمل من أجل الآخرة، ويهمل الحياة الدنيا، وإما الشق الذي يعمل من أجل الدنيا ويهمل الآخرة، ويعجز في جميع الأحوال عن استيعاب الإنسان كله كما خلقه الله، بشقيه معاً مجتمعين مترابطين: قبضة الطين ونفخة الروح: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (ص: 71-72) .

وإن عجز الأمة عن استيعاب التقدم العلمي والتكنولوجي الحادث في الأرض، وعجزها عن تقديم النموذج الحضاري المتميز، كانت له دلالة لا ينبغي أن تفوت صاحب الدعوة. دلالته العامة أن الشعلة الحية لهذا الدين في نفوس أصحابه قد خبت، أو ضعفت إلى الحد الذي يعجزها عن التفاعل الحي مع الأحداث، كما تفاعلت من قبل مع أحداث التاريخ. وهذا الضعف لا بد له بطبيعة الحال من أسباب، فهو ليس من طبيعة هذا الدين الحي المواري بالحيوية، الذي صنع الأعاجيب في حياة البشرية كلها، حين آمن به أصحابه إيماناً صادقاً واعياً، وتحركوا به في دنيا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015