والآن فلننظر ماذا أصاب مفهوم لا إله إلا الله في حس الناس؟
لقد أصابه انحسار شديد، حتى أصبحت لا إله إلا الله مجرد كلمة تقال باللسان، لا تأثير لها في واقع الكثرة الكاثرة من الناس، إلا من رحم ربك، بل إنها لم تعد مانعة من الوقوع في الشرك عند كثير من الناس، سواء شرك الاعتقاد، أو شرك العبادة، أو شرك التشريع.
والفرق بين واقعنا المعاصر وواقع المجتمع الجاهلي وقت البعثة، أن القوم كانوا يمارسون الشرك الظاهر الصريح، ويرفضون في الوقت ذاته أن يقولوا: لا إله إلا الله. أما الناس في واقعنا المعاصر - إلا من رحم ربك - فإنهم يقولون بأفواههم: لا إله إلا الله، ثم يقعون في الشرك بنوع من أنواعه، أو بجميع أنواعه.
لذلك فإننا نحتاج إلى منهج شديد الشبه بمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، لبيان حقيقة لا إله إلا الله، ثم تحويلها إلى واقع معاش في حياة الذين يعتنقون هذا الدين.
وفي ظني أنها مهمة شاقة، لا تقل مشقة، ولا حاجة إلى بذل الجهد، عما بذل في الجولة الأولى، لإزالة الغربة عن الإسلام أول مرة، بل ربما كانت الغربة الثانية أعسر في إزالتها من الغربة الأولى، حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حاضراً بشخصه يمثل القدوة الحية ومنبع الإلهام.
لقد كان العسر في الجولة الأولى ناشئاً من لدد الخصومة، بالإضافة إلى شدة التمسك بعرف الآباء والأجداد: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} (مريم: 97) . {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (البقرة: 170) .
أما في الجولة الثانية، فلن نجد مشقة في أن نجعل الناس ينطقون بأفواههم: لا إله إلا الله، فهم ينطقونها صباح مساء! ولكن المشقة أنهم يظنون أنهم بمجرد نطقهم للا إله إلا الله صاروا مسلمين، ولصقت بهم صفة الإسلام، أياً كان سلوكهم الواقعي، وأياً كان مدى نقضهم لمقتضيات لا إله إلا الله في عالم الواقع! وأنك إن قلت لهم: إن للا إله إلا الله مقتضيات لا يثبت للإنسان إسلامه إلا بالتزامها، وإلا أخذ عليه إقراره اللساني واعتبر مرتداً، كذبوك! وقالوا: ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين!