ما أبعد الشقة بين هذا الوضع وذاك في خط سير الدعوة!
لا شك أن الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائماً في قلوبهم، من كثرة ما رأوا وسمعوا عن خصاله الكريمة صلى الله عليه وسلم، وقد كان نموذجاً فريداً في البشر، لا يدانيه أحد ممن عرفوه أو سمعوا عنه خلال التاريخ. ولاشك أن التعاطف مع المعذبين في الأرض، كان قائماً في قلوبهم، من كثرة ما رأوا وسمعوا من ألوان التعذيب، وألوان الصبر على التعذيب.
ولكن هذا وذاك لم يكن الدافع الأوحد الذي يحركهم؛ إنما حركهم ابتداء أنهم آمنوا أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. آمنوا بالله ربا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، وبالإسلام ديناً، فجاءوا يبايعون على السمع والطاعة، وعلى الموت والحياة.
قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تمنعوني؟)) قالوا: نمنعك مما نمنع منه نساءنا وأطفالنا. وقالوا: لو استعرضت بنا الصحراء قطعناها، ولو خضت بنا هذا البحر خضناه.
جندية كاملة للدعوة الجديدة.
لم يأن بعد أوان ((الجماهير)) ! إنما يأتون في موعدهم المقدر عند الله.
ولكن ماذا لو كان الأنصار رضي الله عنهم، مجرد جماهير متحمسة، جاءت بدافع الحماسة والحب والتعاطف فحسب. هل كانت حماستهم تصبر على لأواء الطريق؟ هل كانت تصبر للصدام حين يأتي الإذن من الله العلي القدير برد العدوان؟!
أما أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان سيفرح بدخولهم في الدعوة واعتناقهم الإسلام، فأمر لا نظنه موضع شك. وأما أن المؤمنين من أهل مكة كانوا سيفرحون برؤية إخوان لهم في العقيدة، فأمر لا نظنه كذلك موضع شك. أما أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان سيتحرك بهم في خط الدعوة، فأمر يحوطه الشك الكثيف، ودليله سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم لهم: ((تمنعوني)) ؟ فالسؤال لم يكن عن إيمانهم، وقد جاءوا يعرضونه صريحاً بلا مواربة، إنما كان عن خطوة أخرى وراء الإيمان، وهي تجنيدهم أنفسهم لما آمنوا به وعرفوا أنه الحق.