أولًا: من مظاهر حبه:
والمقصد من سبق الفضل: أن فضل الله عز وجل علينا، وحبه لنا سبق وجودنا على الأرض.
هذا الجانب من أهم الجوانب التي من شأنها أن تؤجج مشاعر الحب داخل القلب، وكيف لا ومن خلاله يكتشف الواحد منا مدى حب ربه له دون أي سبب منه.
فهيا بنا أخي القارئ نعيش في أجواء هذ المظهر:
شاء الله عز وجل أن يخلق مخلوقات من العدم, كنت أنت من مخلوقاته.
واختار من هذه المخلوقات التي لا تعد ولا تحصى مخلوقًا ليختصه بنعمة العقل، وينفخ فيه من روحه, نلت أنت هذا الشرف, شرف التكريم {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء: 70].
كان من الممكن أن تكون مخلوقًا آخر غير الإنسان كأن تكون حجرًا، أو عصفورًا، أو شجرة، أو حبة رمل، أو ...
ولكنه الفضل العظيم من الله عز وجل الذي اجتباك على كثير من مخلوقاته، وكرَّمك عليهم.
قدَّر الله عز وجل لأبينا آدم - عليه السلام - عددًا محددًا من الذرية تهبط إلى الأرض لتؤدي اختبار العبودية, كنت أنت واحدًا منهم، وشهدت المشهد العظيم الذي أخذ الله فيه العهد من جميع ذرية آدم على عبادته {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف: 172].
هذا العدد الكبير الذي قدَّره الله لذرية آدم - عليه السلام - لم يشأ سبحانه أن يُهبطه إلى الأرض دفعة واحدة، بل مجموعة تلو الأخرى, كل مجموعة تؤدي الامتحان ثم تترك الأرض بعد نزع أرواحها، وتبقى في القبور انتظارًا لنهاية امتحان الجميع، ليتم بعدها الحساب والجزاء.
لم يختر أحد من البشر المكان، أو الزمان، أو البيئة، أو الأبوين، أو الشكل الذي ستحل روحه فيه، ويؤدي من خلاله الامتحان، مع الأخذ في الاعتبار بأن الله عز وجل لم يظلم أحدًا من الناس، فبالعقل والفطرة يستطيع المرء في أي زمان ومكان الاستدلال على وحدانية الله، وكذلك فإن الرسل والكتب السماوية التي أنزلها الله عز وجل تبين للناس المطلوب منهم، ولكن بلا شك أن نزولك إلى الأرض في هذا الزمان وهذا المكان الذي نحيا فيه له مميزات ضخمة تدل على سبق فضلٍ واجتباء عظيم من الله لك.
هيا بنا نُطلق لخيالنا العنان، وليتخيل كل منا أنه قد ولد في زمان آخر غير الزمان الذي وُلد فيه.
تخيل أنك قد وُلدت في زمان قوم لوط، لتجد نفسك - عافاك الله - من أبناء أسرة تقترف أسوأ أنواع الفاحشة والعياذ بالله .. ماذا كنت ستفعل؟!
ألا توافقني أنه اختبار قاسٍ كان عليك اجتيازه، وأن نسبة نجاحك فيه لا شك ضعيفة؟!
تخيل لو أنك وجدت نفسك ابنًا من أبناء قوم فرعون أو عاد أو ثمود، أو من أبناء القرامطة أو أحد الفرق الضالة التي ظهرت في فترة من فترات التاريخ الإسلامي.
تخيل أنك قد ولدت في زمن التتار، أو محاكم التفتيش ماذا كنت ستفعل؟!
ألا ترى في تجنيبك كل ذلك عظيم حب ربك لك، وسبق فضله عليك أن أوجدك في هذا الزمان.
ومما يلحق بنعم سبق الفضل في الزمان: تيسُّر الحياة، فلو كنت قد وُلدت منذ بضع قرون في نفس المكان الذي تحيا فيه الآن .. تخيل مدى صعوبة الحياة في ذلك الوقت .. لا كهرباء .. لا دورات مياه .. لا سيارات .. أو طائرات .. لا وسائل اتصال .. لا عمليات جراحية.