لقد كان الطوسي عالماً في الفلك والرياضيات، وكان من المتميزين البارزين المقربين إلى الخلفاء لعلمه، فهذا الإنسان المتميز عادة ما يكون له أعداء، فوشوا به وكادوا له فوضع في السجن رحمه الله، فكتب أبحاثاً في الفلك والرياضيات من أروع ما يكون.
وسيد قطب رحمه الله كتب (الظلال) في السجن، ولعله لو كان خارج السجن لما كتبه، فأصبح السجن بالنسبة له نعمة، لكن ليس هناك شيء اسمه تضييع وقت، وهذا موضوع درسنا القادم إن شاء الله بالتفصيل، لكن الشاهد أنه في هذه الظروف الصعبة كتب (الظلال)، وقلما تجد مكتبة في مسجد من مساجد العالم إلا وتجد فيها هذا الكتاب، ولقد شاهدت أناساً يترجمون هذا الكتاب إلى لغات أعجمية إلى اللغة الألبانية وإلى اللغة الهندية فهناك جهد يُبذل لهذا الأمر، فهذا خير عميم عُمل وحصل في السجن.
كذلك ابن تيمية له كتابات كثيرة في السجن ومفيدة جداً.
وهذا فخر الدين الساعاتي رحمه الله أحد جهابذة الطب في تاريخ الإسلام، وكان يقول: يحسدني قومي على صنعتي؛ لأنني بينهم فارس سهرت في ليلي واستنعسوا، لن يستوي الدارس والناعس.
ومر بنا موقف البيروني رحمه الله يتعلم وهو على فراش الموت.
كذلك ابن خلدون رحمه الله كان يسأل عن العلوم الإنسانية، فـ ابن خلدون واضع علم الاجتماع، فهو أول من كتب في علم الاجتماع في العالم، ولعلكم سمعتم منذ عدة شهور الاحتفال الضخم التي قامت به إسبانيا، حيث احتفلوا بمرور (600) سنة على وفاة ابن خلدون، وهم أكثر البلاد كرهاً للإسلام والمسلمين، ومع كل ما فعلوه في محاكم التفتيش سابقاً من الطرد والإبعاد والقتل للمسلمين عموماً، ومع ذلك لا يستطيعون أن يتجاهلوا شخصية كشخصية ابن خلدون رحمه الله، فاحتفلوا بمرور (600) سنة على وفاته رحمه الله.
وابن خلدون لم يصبح بهذه المكانة من فراغ، فقد ذهب في طلب العلم من الأندلس، ولم يعد إليها إلا بعد (25) سنة، فهذه رحلة علم (25) سنة، فقد ذهب إلى تونس والجزائر والمغرب ومصر، وتجول في بلاد الأرض بحثاً عن العلم، ليكتب مقدمة ابن خلدون، هذه المقدمة التي خلدّت اسمه في التاريخ، والتي فيها أسس علم الاجتماع، وفيها قواعد تفسير التاريخ، فيها أمور كثيرة جداً من أعظم الأمور في تاريخ العلوم، وعندما أراد أن يكتب هذه المقدمة ذهب بأسرته إلى الجزائر في قلعة وسط الجبل بعيداً عن الناس، واعتكف هناك أربع سنوات كاملة لا يخرج من القلعة، ولم يخرج من القلعة إلا ومعه الكتاب الذي أصبح أساساً علمياً لم يكن موجوداً في الدنيا قبل ذلك.
وهذا ابن رشد كان نابغة في الطب يقال في تاريخه: إنه لم يدع النظر في الكتب في حياته كلها إلا في ليلتين: أحدهما: مات أبوه فيها، الليلة الثانية: ليلة زواجه، فكل الليالي في حياته لا بد أن يطالع في الكتب ويفحص ويكتب ويستذكر.
وهذا ابن سينا أقبل على دراسة الفلسفة، حتى إنه لم يترك كتاباً سبقه في التاريخ إلا واطّلع عليه، وبعد هذا قرأ في الحساب، وعلم حساب الهند وغيره من أنواع الحساب، ثم أتقن علم المنطق، ثم بدأ يتجه إلى كتب أقليدس وهو من علماء اليونان، ثم كتب بطليموس، وقرأ وتفنن وأبدع وناظر في هذه الأمور، ثم بعد هذه الرحلة في العلم رغب في علم الطب فوجده أسهل من العلوم الأخرى، فلم يأخذ منه وقتاً طويلاً حتى أتقنه، فأتقن علم الطب واحتاج الناس إليه، حتى أصبح أعلم أهل زمانه في الطب، وأهل الطب في زمنه لا يجازون إلا بقراءة الطب عليه، ثم يقول: واختلفت بعد ذلك إلى الفقه، فتفقهت وأصبحت من المناظرين ثم قال: علت ذلك وأنا ابن (16) سنة.
فالإنسان عنده إمكانيات هائلة: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان:11] فالله عز وجل خلق هذا العقل بإعجاز، فإمكانياتك الحقيقية أكثر من تخيلك بآلاف المرات، ولكن نحن نعمل بـ (000.
1) من إمكانياتنا.
وابن سينا ليس نبياً وليس معصوماً وله أخطاء كما تعلمون، وقد قطع هذا الشوط في هذه العلوم وعمره (16) سنة، لم يكن قارئاً بل متقناً ومناظراً في علوم الفلسفة والمنطق والهندسة والطب والرياضيات والفقه، ويقول: وفي هذه المدة ما نمت ليلة واحدة بطولها، ولا اشتغلت النهار بغيره، وجمعت بين يدي ظهوراً وكتباً.
يعني المئات من الكتب التي جمعها ابن سينا.
ويقول: وكلما كنت أتحير في مسألة ترددت إلى الجامع، فأصلي وأبتهل إلى الله عز وجل حتى يفتح لي المنغلق، وييسر لي المتعسر، فيفتح الله عز وجل لي، وكنت أرجع بالليل إلى داري وأضع السراج بين يدي، وأشتغل بالقراءة والكتابة، فكلما غلبني النوم أو شعرت بضعف عدلت إلى شرب قدح من الشراب ريثما تعود إلي قوتي، ثم أرجع إلى القراءة، وكلما أخذني أدنى نوم أحلم بتلك المسائل ب