يسأل أحد الإخوة ويقول: أنا أجد أنه من المستحيل أو من الصعب جداً أن أجمع بين العلوم الحياتية والعلوم الشرعية فأُبدع في كليهما، فأكون الألباني وأحمد زويل في آن معاً؟
صلى الله عليه وسلم أنا لم أقل هكذا، فأنا لدي التسجيلات القديمة ومحتفظ بها، فما نريد منك أبداً أن تكون عالماً مبدعاً في العلوم الشرعية، وفي نفس الوقت تكون عالماً مبدعاً في العلوم الحياتية، وإنما قلنا: إن هناك حداً أدنى من العلوم الشرعية لا بد أن تتقنه، إذا لم تكن أنت من علماء العلوم الشرعية، فهناك حد أدنى من العلوم الشرعية تستقيم به عقيدتك وعبادتك لله عز وجل، وتعرف به دينك وتعرف به الحلال والحرام، وتتقي الشبهات، وتسير دون إفتاء ولا إبداء للآراء في المشاكل الفقهية العويصة التي تعترض طريق المسلمين؛ هذه لها متخصصون، لكن في ذات الوقت ينبغي لك أن تكون مبدعاً في مجالك الحياتي الذي أنت فيه، أما إن كنت من علماء الشرع فمطلوب منك الإبداع في تخصصك.
وعندما نأتي لقراءة بعض سير العلماء السابقين نجد بعضهم مبدعاً في الفقه وأيضاً مبدعاً في الجبر وفي الفلك وفي الطب، فعلى سبيل المثال: البيروني فقد كان موسوعة، كان من علماء المسلمين في الفقه، ومن علماء المسلمين في الفيزياء ومن علماء المسلمين في الفلك.
فالعلم يتطور جداً، في السابق إذا أردت أن تدرس الفيزياء فتحتاج إلى قراءة كتاب أو كتابين أو ثلاثة أو عشرة، لكن في هذا الوقت لن تستطيع دراسة الفيزياء بكاملها، فهناك مليون تخصص داخلها، فمنذ (30) أو (40) سنة كانت العلوم نفسها فروعاً قليلة جداً، ثم تشعّبت، وعلى سبيل المثال المسالك البولية، فقد كانت المسالك البولية جزءاً من الجراحة العامة منذ (40) أو (50) سنة، وبعد هذا أصبحت تخصصاً منفرداً، وانقسمت الجراحة العامة إلى أقسام مختلفة، ففي هذا الوقت الذين قاموا بالأبحاث والدراسات قسموا المسالك البولية إلى سبعة أقسام، وداخل كل قسم هناك متخصصون في بعض الفروع، ويتركون الفروع الأخرى.
إذاً: العلم يتسع جداً جداً، فكل يوم نكتشف شيئاً جديداً، وأصبح الآن من المستحيل على عالم أن يكون متخصصاً في جميع الفروع، فليس مطلوباً منك أن تكون كـ الألباني وأحمد زويل في شخص واحد، ولكن المطلوب منك أن تكون مبدعاً في مجالك ومتقدماً فيه، وليس شرطاً أن تكون عالماً متفوقاً في جميع الهندسة أو جميع الطب أو جميع الفلك، ولكن تكون متفوقاً في جزئية معينة بحيث تنتج إنتاجاً متميزاً.
يريد بعض الناس أن يكون في الموضوع حكايات وروايات وفكاهات؛ لأن هذا الموضوع صعب، والمكان غير مناسب، وأن هذه المحاضرات لا تناسب إلا أن تكون في محافل علمية ومناظرات علمية نظرية لها أماكن محددة!! سبحان الله! فأيهما أولى أن نجلس ونتحدث عن أمور فيها فكاهات وروايات وقصص هينة على القلب، أم نتحدث عن الأمور التي نحتاجها سواء كانت صعبة أم سهلة؟! أنا طبيب فلو أتاني مريض بالسرطان وعنده برودة، هل أظل أعالج البرد إلى أن يخف وأترك مرض السرطان؟ قلنا: إن قضية العلم هذه شئنا أم أبينا، أردنا أم لم نرد، أحببناها أم لم نحببها، لطيفة على القلب أو مملة على القلب، فإنه لا تقوم الأمة إلا بها، وليس هناك أمل إلا فيكم أنتم، فالكثير من الناس من غير أهل المساجد ضاعت ضمائرهم، وماتت هممهم، وعاشوا لدنياهم، من سيتحرك لبناء الأمة الإسلامية إن لم يتحرك لها المخلصون الحريصون على مجالس العلم، وعلى بناء الأمة الإسلامية، وعلى الصحوة الإسلامية، وعلى القرآن والسنة؟ من يتحرك إن تقاعس هؤلاء؟ من يتحرك إن وجد هؤلاء أن الكلام في الجروح أمر ممل أو أمر صعب؟ لا، المكاشفة والوضوح أمر ضروري للإصلاح، وكما قلنا في بداية المحاضرات: لا بد أن نرصد الواقع، وأول طرق الحل أن نرفع الواقع، فالذي رأيناه ورصدناه هذا يدل على فجوة واسعة بيننا وبين غيرنا، أو بيننا وبين ما ينبغي أن نكون عليه، مثل هذا الأمر يحرك فينا الهمم، وليس عيباً أن نكتشف هذا الأمر في هذا الوقت، لكن العيب أن نعرف هذا الكلام ونتركه ولا نتحرك، وأحد الإخوة يعتقد أن سبب اضطهاد الكنيسة للعلماء في أوروبا في أوائل النهضة الأوروبية العلمية الأخيرة هذه، هو أن علماء الكنيسة أو رجال الكنيسة يخافون أن يُكشف تحريفهم للتوراة والإنجيل، هذا على حسب ظنه، لكني أنا أعتقد أنهم كانوا يحاربون علماء الحياة، يحاربون علماء الفيزياء والكيمياء والفلك، يحاربون هؤلاء؛ لأن العلم سلطان، فالناس تحتاج إلى العلماء، والكنيسة في ذلك الوقت كانت سلطان أوروبا، والمرجعية الحكمية في كل الأمور كانت للبابا وللقساوسة، فإذا ظهر من ينافسهم على السلطان حتى وإن لم يجلس على كرسي السلطان، لكن بعلمه وبقيادته العلمية للمجتمعات، فهذا يمثل خطراً بالنسبة لهم.
إذاً: فهي منافسة على السلطة والحكم.
سأل الحجاج بن يوسف الثقفي أحد أعوانه: من هو سيد البصرة؟ فقال له: الحسن البصري، فقال: كيف أصبح سيداً للبصر