العلم نوعان كما ذكرنا منذ قليل: علم شرعي، وعلم حياتي.
وهذه العلوم الشرعية والحياتية تنقسم بدورها إلى نوعين: علم فرض عين، وعلم فرض كفاية.
فرض عين، أي: يتعين على المسلم أن يعرفه، وفي بعض العلوم الشرعية يتعين علينا جميعاً أن نعرفها، يتعين علينا جميعاً أن نعتقد في الله اعتقاداً صحيحاً، وأن نعلم أنه قادر وحكيم وخبير، وأن نعلم أن رسولنا صلى الله عليه وسلم قد بُعث بالحق، وقد بلغ عن ربه وما كتم شيئاً، وأن نعلم كيف نصلي وكيف نصوم وكيف نزكي، وما الذي ينقض صلاتنا، وما الذي ينقض صيامنا، وما الذي يجعل زكاتنا غير متقبلة أو غير صحيحة، وما الذي يجب أن نعرفه في أمور العمرة والحج لمن يعتمر أو يحج، وأمور الحلال والحرام، وبعض الدقائق لبعض المتخصصين.
فمثلاً: لو أنك تاجر لا بد أن تعرف فقه التجارة؛ حتى لا تقع في حرام وأنت لا تعرف، ولو أنك طبيب لا بد أن تعرف فقه الطب الذي تعالج به؛ لئلا تضع المريض في حرج شرعي وأنت لا تعلم وهكذا، هنا فرض عين على بعض المسلمين الذي إذا تخصص في مجال لا بد أن يُبدع فيه.
أما فرض الكفاية فهو إن قام به بعض أفراد الأمة كفى عن الآخرين، وعلى سبيل المثال: الهندسة فرض كفاية، لا بد للأمة أن تُخرج من أبنائها عدداً من المهندسين يكفون حاجتها، إن أخرجت الأمة هذا العدد رُفع الإثم عن الأمة ونجت في هذه النقطة، وإن نقص عدد المهندسين في البلد المسلم أثم الجميع، حتى يُخرج العدد الكافي للبلد وبهذا المفهوم ما أكثر الآثام التي توضع على أكتافنا؛ لأننا أحياناً نفكر في العلوم كعلوم شرعية فقط، مع أن العلوم الحياتية لا بد أن توضع في الصورة مع العلوم الشرعية، وسنفرد لها بإذن الله محاضرة خاصة.
الشاهد من الأمر أنه يتعين عليك نوعان من العلوم: علم عام لا بد أن يعرفه الجميع، وعلم خاص في مجال تخصصك، من هذا المنطلق لا يستقيم لطالب أن يكون فاشلاً في مجاله وهو يطلب العلو والسمو لأمة الإسلام، ويدعو الله مبتهلاً أن تُرفع الغمة، وأن يُرفع الاحتلال وأن تسود الأمة ويُحكم بالقرآن، ثم هو متخلف في مجال صنعته ومهنته، أو في علمه الذي وكّل به.
فهذا العلم فرض عين عليه في هذا الوقت، فالمهندس لا بد أن يكون عالماً بهندسته، والكيميائي كذلك، والمدرس كذلك، والطبيب كذلك، وكل مهنة إن كنت ضعيفاً فيها فأنت من أسباب ضعف الأمة بصفة عامة، وأنت آثم تحمل إثماً كبيراً بحجم التقصير الذي قصّرت فيه.
وإن فشلت الأمة كما ذكرنا في إخراج العلماء الذين يكفون حاجتها أثمت الأمة بكاملها، وتخلفت عن ركب الحضارة، وقادها غيرها ووقعت في الأزمات والمشاكل، وسقطت من عيون الآخرين، فانتهكوا حرماتها واحتلوا أراضيها، وسلبوا ثرواتها، وضاعت الأمم بين أقدام الغزاة.
هذه الدروس ليست دروس موعظة، ولكنها دروس بناء للأمة، تحتاج أن تأخذ المعلومة وتنطلق للعمل بسرعة، فالموت يأتي بغتة، ولو ضاع من العمر قبل ذلك عشر أو عشرون أو ثلاثون سنة في غير علم فابدأ الآن في مجال تخصصك، وليس هناك شيء اسمه انتهى من البكالوريوس ووقف عند ذلك، هناك شيء اسمه دراسات عليا، هناك ماجستير ودكتوراه وتفوق وإبداع، وهناك سبق واختراع، وهناك قيادة للآخرين، تذكروا قصة الدنمارك والمقاطعة مع الدنمارك وجميعنا قاطع الدنمارك والحمد لله، لكن الدنمارك تصنع جبناً وزبدة، وليس من المشكلة أن نقاطعها فعندنا بدائل كثيرة، كنت قد سألتكم سؤالاً: ماذا لو كانت الصور التي رُسم فيها حبيبنا صلى الله عليه وسلم ظهرت في مجلات وجرائد الصين؟ من كان يجرؤ على رفع شعار: فلنقاطع الصين؟ صعب جداً، فحياتنا معتمدة على الصين الآن، وكل شيء من الصين في هذا الوقت، حتى فوانيس رمضان -وكل سنة وأنتم طيبون- تأتي من الصين، وبأغانيها الإسلامية، السجاد من الصين وعليها كتابات إسلامية، ساعة الأذان من الصين، يقول أحدهم وهو يتكلم بجدية: الحمد لله أن الله سخّرهم لنا، فهم يصنعون لنا كل شيء! وهو سعيد بهذا أيضاً، أقول: هذا ضعف شديد في الفهم، فهو أيضاً عندما يصنع لك هذا، فإنه يصنع سلاحاً وأنت لا تصنع، ويصنع كمبيوتراً وأنت لا تصنع، ويصنع طائرة وأنت لا تصنع، ما الذي ستفعله لو قاطعك هو؟! إذاً: فالذي نعطيه للبشرية كلها هو العلم، ونعلو فوق البشرية ونقودها بهذا العلم، وعلمنا خير للدنيا جميعاً، وسنتعرض لتاريخنا العلمي إن شاء الله في غضون هذه المحاضرات، وستعرفون كيف سادت أمة الإسلام العالم أجمع بالعلم أولاً، وهناك عوامل كثيرة، لكن لا بد من العلم.
وخلاصة القول في هذه المحاضرة: أن الأساس الأول الذي بُنيت عليه أمة الإسلام، والذي بُنيت عليه الأمم الأخرى في زماننا وفي الأزمان السابقة هو أساس العلم، وبغيره لا تقوم أمة، ونتميز نحن المسلمين بأن عندنا العلم الحياتي نعظّمه ونجلّه، وكذلك العلم الشرعي الذي أوحى به ربنا سبحانه وتعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، ونزل في كتاب الله عز وجل وفي سنة حبيبنا صلى الله عليه وسلم، فهذا تفتقده الأمم الأخرى، فتجد معايير الأخلاق والعقيدة والآداب عندهم مختلة بينما عن