لابد أن نقف وقفة ونتفكّر: لماذا كان أول شيء نزل في هذه الرسالة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5]؟ تدبروا وتفكروا، فالقرآن الكريم أكثر من ستة آلاف آية، من كل هذه الآيات اختار ربنا سبحانه وتعالى أن يكون مفتاح هذا الدين والبداية والأساس الذي تُبنى عليه الأمة هذه الآيات الخمس، تكررت في هذه الآيات الخمس كلمة العلم بمشتقاتها ثلاث مرات، وتكررت كلمة القراءة مرتان، وجاءت كلمة القلم مرة، كل هذا في خمس آيات قصيرة، ألا يُعطي لنا هذا التركيز انطباعاً؟ أليس من المحرج جداً لهذه الأمة أن تكون في ذيل المتعلمين والعلماء في العالم الآن، وهي التي افتُتح دستورها بهذه الآيات الخمس؟! هذا أمر يحتاج إلى وقفة حقيقية، وغريب أن تنزل هذه الآيات الخمس أول ما تنزل على رسولنا صلى الله عليه وسلم وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولم يقرأ ولم يكتب طيلة حياته، والله عز وجل يعلم ذلك تماماً، ومع ذلك نزلت الآيات لتلفت الأنظار إلى أهم ما في هذا الدين وهو العلم، في الحقيقة هذا أهم ما في هذا الدين، وبعض الناس قد يعقد مقارنات مع الأخلاق وهي هامة، ومع العقيدة وهي أيضاً هامة، ومع الجهاد في سبيل الله وهو هام، وسنذكر الآن أن العلم يسبق هذه الأمور، العلم ضروري لكي تعمل كل هذه الأمور بشكل صحيح، فلو أنك أسست بيتاً وجئت فيه بثلاجة وبوتاجاز ومروحة وغير ذلك من أدوات المنزل الكهربائية، ثم لم تأت بالكهرباء ولم تأت بالغاز، كل هذه الأشياء الجميلة لا قيمة لها بالمرة ولا معنى لها، وبغير العلم لا قيمة للأخلاق، وبغير العلم لا قيمة للجهاد في سبيل الله، بل إن العقيدة تحتاج إلى علم، فقد قال ربنا سبحانه وتعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] فالعقيدة تحتاج إلى علم؛ لأن الذين عبدوا الله عز وجل بظن ولم يعبدوه بعلم ضلوا وأضلوا، فوصل بهم جهلهم إلى عبادة أحجار من دون الله، ووصل بهم جهلهم إلى عبادة أبقار من دون الله، ووصل بهم جهلهم إلى عبادة بشر من دون الله، هذا هو الجهل وهذا هو العلم، وهذه قيمة العلم.
إذاً: نزول هذه الآيات على رسولنا صلى الله عليه وسلم وهو أمي لا يكتب ولا يقرأ تلفت النظر إلى قيمة العلم، ونزلت هذه الآيات أيضاً في بيئة كبيئة العرب التي اشتُهرت بالأمية، ففي ذلك الوقت كانت أمة لا تكتب ولا تقرأ إلا أقل القليل، وكانوا متخلفين في معظم العلوم، اللهم إلا الشعر والبلاغة واللغة، ومن هنا جاء القرآن الكريم ليتحداهم في هذا المجال، لكن في معظم العلوم الأخرى كانوا في حالة جهل كبير جداً، لدرجة أن الله عز وجل سمى الفترة التي تسبق الإسلام بالجاهلية فقال: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة:50]، فالفترة التي سبقت الإسلام كانت فترة جهل، والتي بعد الإسلام فترة علم.
فالإسلام ثورة علمية حقيقية، وتغيير كامل لمنهج الأمة التي كانت تعيش في هذه البقاع، ونقلة هائلة من أمة جاهلة لا تكتب ولا تقرأ ولا تخترع ولا تسبق غيرها، ولا تفكّر إلا في التبعية لفارس أو الروم أو غيرهما، من أمة جاهلة إلى دولة رائدة قوية تنشر الحق والعدل والإسلام والتوحيد في مشارق الأرض ومغاربها.
أول خمس آيات تتحدث عن العلم، ولم يكن هذا فقط في الآيات الأولى من القرآن الكريم، بل كان مستمراً في كل الآيات، فقد قمت بإحصائية لكلمة العلم بمشتقاتها في القرآن الكريم ففوجئت مفاجئة كبيرة جداً، حيث إن كلمة العلم هي أكثر كلمة جاءت في كتاب الله عز وجل بعد لفظ الجلالة، وهذه إحصائية لها مغزى ولها معنى، فالتركيز على كلمة العلم بهذه الصورة ليس أمراً عشوائياً أبداً، حاشا لله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] كل كلمة محسوبة، وكل كلمة في مكانها العلم بمشتقاته أتى في القرآن (779) مرة بالضبط، والقرآن الكريم عدد سوره (114) سورة، فيكون العلم قد ذكر أكثر من (7) مرات في السورة الواحدة، قد تأتي في سور أكثر وفي سور أخرى أقل، لكن المتوسط سبع مرات في السورة، فأي تكريم للعلم؟! فالعلم بهذا المعنى هو أساس حقيقي لبناء الأمة، وأساس حقيقي لدخول الجنة: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة) فكل منكم أتى من مكان معين بعيداً كان أو قريباً، فمشوارك إلى هنا هذا طريق للجنة، وصبرك في هذا المكان هو صبر لدخول الجنة؛ لما جاء تصريحاً في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة).
إذاً: أول ما نزل من القرآن يختص بالعلم، وأكثر كلمة بعد لفظ الجلالة هي العلم بمشتقاته، فأول ما خلق آدم عل