الصفة الثامنة: صفة العزة، أن يكون العالم عزيزاً، لا يطلب ما في أيدي الناس ولا ما في يد السلطان، رافعاً رأسه، فخوراً بعلمه، لا يطلب من دنيا الناس شيئاً.
كان سليمان بن عبد الملك الخليفة الأموي يقول لـ أبي حازم: هل لك أن تصحبنا؟ وأبو حازم من كبار التابعين ومن علمائهم، والناس تفخر بصحبته، حتى إن خليفة المسلمين يريد أن يصحبه، فلو أن خليفة المسلمين يقول له: أريدك أن تكون صاحباً لي، أو هل لك أن تصحبنا فتصيب منا ونصيب منك؟ يعني: سآخذ منك علماً، فـ أبو حازم لا يمانع من هذا، ولكن ماذا سيصيب من الوالي؟ سيصيب منه مال ووجاهة ووضعاً اجتماعياً وقصراً وذهباً.
قوله: فتصيب منا، هذا فيه إغراء، فهو يغريه: هل لك أن تصحبنا فتصيب منا ونصيب منك؟ ويشجعه بقوله: ونصيب منك، يعني: أنا سآخذ منك علماً، ويا ليت أن حكامنا يكونون بهذه الصورة، يعني: أتمنى أن يقول الحاكم للعالم: تعال وكن بجانبي خذ المال وآخذ من علمك، نتمنى.
قال العالم أبو حازم: أعوذ بالله لو أنه قالها في زماننا لاختفى اختفاء أبدياً، ويصبح بدل العالم: الشهيد فلان، قال: أعوذ بالله، قال له سليمان: ولم ذاك؟ قال: أخشى أن أركن شيئاً قليلاً، فيذيقني الله عز وجل ضعف الحياة وضعف الممات.
هذا الكلام هو خطاب في القرآن الكريم لرسولنا صلى الله عليه وسلم، كأنه يقول: إنه من باب أولى إن ركنت شيئاً قليلاً أذاقني الله عز وجل ضعف الحياة وضعف الممات، فقال له سليمان: إذاً ارفع إلينا حوائجك.
فـ سليمان بن عبد الملك يتودد له بقوله: ارفع لنا حوائجك، قال: حاجتي أن تنجيني من النار وتدخلني الجنة، هل تستطيعها؟ قال: ليس ذلك إلي، لا أستطيع، فقال: فما لي إليك حاجة غيرها.
يعني: هذه حاجتي في الدنيا، وأنا أعيش حياتي كلها من أجل أن أدخل الجنة وأنجو من النار، ومادامت ليست عندك، فلا أستطيع مصاحبتك ولا أرفع حوائجي إليك، وليس لي علاقة بك، ولن أكون من علماء السلطان، لكن إن سألتني عن علم وأنا في مكاني رددت عليك.
هكذا كان العلماء رحمهم الله جميعاً في عزة، كانوا إذا أرسل إليهم السلطان: أن ائتوني حتى أسألكم عن أمر من العلوم، قالوا: العلم يؤتى ولا يأتي، فيأتي السلطان إلى العالم في مجلس العلم من أجل أن يسأله، وما أكثر الروايات عن هذا الأمر، ولكن المقام لا يتسع لذكر ذلك.