ذلك، كان يكون من قبيل الشهادة، وقد يجب في بعض المواضع، وقد تكون فيه مصلحة للميت، كمن علم أنه أخذ ماله بشهادة زور، ومات الشاهد، فإن ذكر ذلك ينفع الميت، إن علم أن ذلك المال يرد إلى أهله.
قال: ولأجل الغفلة عن هذا التفصيل، ظن بعضهم أن البخاري سها عن حديث الثناء بالخير والشر، وإنما قصد البخاريّ أن يبين أن ذلك الجائز كان على معنى الشهادة، وهذا الممنوع هو على وجه السب، ولما كان المتن قد يشعر بالعموم، أتْبعه بالترجمة التي بعده، وتأول بعضهم الترجمة الأولى على المسلمين خاصة، والوجه حَمْلُه على العموم إلا ما خصصه الدليل، بل لقائل أن يمنع أنّ ما كان على جهة الشهادة، وقصد التحذير، يسمى سبًا في اللغة.
وقال ابن بطال: سب الأموات يجري مجرى الغيبة، فإن كان أغلب أحوال المرء الخير، وقد تكون منه الفلتة، فالاغتياب له ممنوع، وإن كان فاسقًا معلنًا فلا غيبة له. فكذلك الميت، ويحتمل أن يكون النهي على عمومه فيما بعد الدفن، والمباح ذكر الرجل بما فيه قبل الدفن، ليتعظ بذلك قُسّاق الأحياء، فإذا صار إلى قبره أمسك عنه، لإفضائه إلى ما قدم.
وقد عملت عائشة راوية الحديث بذلك فيمن استحق عندها اللعن، فكانت تلعنه وهو حي، فلما مات تركت ذلك، ونهت عنه، فقد أخرج عمر بن شَيّة في أخبار البصرة عن مجاهد أن عائشة قال: ما فعل يزيد الأرجي: لعنه الله؟ قالوا: مات، قالت: استغفر الله. قالوا: ما هذا؟ فذكرت الحديث.
وأخرج عن مسروق أن عليًا بعث يزيد بن قيس الأرجي في أيام الجمل برسالة، فلم ترد عليه جوابًا، فبلغها أنه عاب عليها ذلك، فكانت تلعنه، ثم لما بلغها موته نهت عن لعنه. وقالت: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهانا عن سب الأموات. وقوله: "أَفْضُوا إلى ما قدموا"، أي: وصلوا إلى ما عملوا من خير أو شر، واستدل به على منع سب الأموات مطلقًا، وقد مرَّ أن عمومه مخصوص.
وأصح ما قيل في ذلك أن أموات الكفار والفُسّاق يجوز ذكر مساوئهم، للتحذير منهم والتنفير عنهم، وقد أجمع العلماء على جواز جرح المجروحين من الرواة.
قد مرَّوا، مرَّ آدم وشعبة في الثالث من الإيمان، ومرَّ الأعمش في الخامس والعشرين منه، ومرَّ مجاهد في أثر أوله قبل ذكر حديث منه، ومرت عائشة في الثاني من بدء الوحي.
ثم قال: رواه عبد الله بن عبد القدوس ومحمد بن أنس عن الأعمش، أي: متابعين لشعبة، ورواية عبد الله بن عبد القدوس ومحمد بن أنس لم أرها موصولة، ولكن أخرجه عمر بن شَيَّة في كتاب أخبار البصرة عن مجاهد.