حديثي أبي هُريرة وعبادة تعارض، ولا وجه بعد ذلك للتوقف في كون الحدود كفارة، هذا حاصل ما لخّصه في "الفتح" قائلًا: إنما أطلت في هذا الموضع لأني لم أر من أزال اللبس فيه على الوجه المرضي.

وقوله: "فعوقب به" أعم من أن تكون العقوبة حدًّا أو تعزيرًا، ورُوي عن القاضي إسماعيل وغيره أن قتل القاتل إنما هو رادع لغيره، وأما في الآخرة فالطلب للمقتول قائم، لأنه لم يصل إليه حق، قال في "الفتح": بل وصل إليه حق، وأي حق، فإن المقتول ظلمًا تكفر عنه ذنوبه بالقتل كما ورد في الخبر الذي صححه ابن حِبّان وغيره أن السيف مَحّاءٌ للخطايا.

وعن ابن مسعود قال: إذا جاء القتل محا كلَّ شيء. رواه الطَّبراني، وله عن الحسن بن علي نحوه، وعن عائشة مرفوعًا: لا يمر القتل بذنب إلا محاه، قال: فلولا القتل ما كفرت ذنوبه، وأي حق يصل إليه أعظم من هذا, ولو كان حد القتل إنما شرع للردع فقط لم يشرع العفو عن القاتل.

قلت: جميع ما استدل به لا دليل فيه إلا الجملة الأخيرة التي هي: "ولو كان إلخ"، وأما تكفير ذنوب المقتول بقتله ظلمًا فليس فيه وصول حق له من القاتل، إنما فيه أن الله يكفر عنه ذنوبه بما حصل له من الظلم، سواء عوقب القاتل أو لم يعاقب، وهل تدخل في العقوبة المذكورة المصائب الدنيوية من الآلام والأسقام فيه نظر، ويدل للمنع قوله الآتي:

"ومن أصاب من ذلك شيئًا ثم ستره الله" فإن هذه المصائب لا تنافي الستر، لكن بَيَّنَت الأحاديث الكثيرة أن المصائب تكفر الذنوب، فيحتمل أن يراد أنها تكفر ما لا حد فيه، ويستفاد من الحديث أن إقامة الحد كفارة للذنب، ولو لم يتب المحدود، وهو قول الجمهور، وقيل: لا بد من التوبة، وهو قول المعتزلة، ووافقهم ابن حَزْم والبَغَويّ من المفسرين وطائفة يسيرة، واستدلوا باستثناء من تاب في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] وأجيب بأن هذا في عقوبة الدنيا بدليل التقييد بالقدرة عليه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015